نجا "الفلول" وقُتل الأبرياء

منذ ٣ ساعات ١٣

لم يكن مفاجئاً ما جرى في مُدن الساحل السوري وبلداته أخيراً، والذي لا تزال تداعياته مستمرّة، بل ربما كان متوقعاً إثر سقوط نظام بشّار الأسد، بعد أن تصدّع من داخله، وبات متعذّراً على حلفائه حمايته من السقوط المحتوم، الذي بدا خاطفاً، ولم تُرَق لحظة سقوطه دماء كثيرة، ما حمل كثيرين على القول إنّ هذا "السقوط" جاء نتيجة توافقاتٍ إقليميةٍ ودولية، فرضتها المتغيرات. رغم ذلك، ما كان لهذا السقوط أن يمرّ من دون تبعات ومفاعيل، خصوصاً في ظلّ خطابٍ طائفي مشحون تفشّى أخيراً، وشمل، ضمن ما شمل، تقديم سورية دولة أمويّة سنيّة خالصة، في ميلٍ إلى تهميش مكوّناتها الأخرى تاريخياً. وانطوى هذا الخطاب على كراهية مضمرة وغير مضمرة للطائفة العلوية خصوصاً، لكون عائلة الرئيس المخلوع تنتمي إليها، فحُمِّلَت وزراً لا ناقة لها فيه ولا جمل، وهي الطائفة التي برز من بين أبنائها وبناتها مناضلون أشدّاء ضد النظام السابق، دفعوا ضريبة باهظة، قتلاً وسجناً ونفياً، جرّاء هذه المعارضة.

ولم يكن مفاجئاً استهداف عناصر مسلحة محسوبة على النظام السابق لقوى الأمن في بعض مناطق الساحل، الذي كان الشرارة التي أطلقت ما في النفوس من ضغائن، فهناك متضرّرون كُثر من سقوط النظام، بعضهم مرتبط بشبكة مصالح انهارت بهذا السقوط، وبعضهم دفعته مشاعر التهميش إلى الانخراط في مجموعاتٍ وضعت استهداف السلطة الجديدة هدفاً لها، وربما لا يخلو الأمر من أبعاد إقليمية. وقد لا تنتهي التطوّرات بما جرى، فلا ضمان من ألّا يحمل المستقبل تحدّيات مشابهة للسلطة الجديدة، سواء في الساحل أو في مناطق سورية أخرى، خصوصاً مع دخول إسرائيل على الخط، فهل ستتعامل مع تلك التحديات بالطريقة التي تعاملت بها مع ما جرى في الساحل حين دفع بأفراد تنظيمات مسلّحة، بعض مسلحيها ليسوا سوريين وغرباء عن نسيج المجتمع المحلي، للانتقام الجماعي من المدنيين العزل، حدّ اقتحام بيوتهم وقتل أفراد عوائل بكاملها، بمن فيهم النساء والأطفال قُدّرت أعدادهم بالمئات، وتوثيق تلك الفظائع بكاميرات الهواتف النقّالة، ونشرها مشفوعة بمفردات من الشتائم للضحايا تضجّ بالكراهية والطائفية البغيضة؟

الذريعة التي سُوِّقَت، جاءت لتبرير ما وُصف بأنه تصدٍّ لفلول النظام السابق. والفلول مصطلح دخل القاموس السياسي العربي غداة أحداث عام 2011، حين سقطت أنظمة في عدة دول عربية، مصر وتونس وليبيا واليمن، واستخدم في وصف بقايا الأنظمة المنهارة، لكنه مفردة ليست طارئة أو مستحدثة، حيث تفيدنا معاجم اللغة بأنّ كلمة "فلول"، ومفردها "فَلّ" بفتح الفاء وتشديد اللام، تطلق على المهزومين، ويقال (هم قومٌ "فَلٌّ") أي مهزومون، ويمكن أن يوصف الرجل بأنه "مفلول" أي منكسر ومنهزم، وأنّ المفرد "فل" هو ذاته المصدر، وكذلك الفعل الماضي. ومثالاً قيل: "فلّ عنترة جيش الأعداء فلاً"، أي ألحق بهم هزيمة منكرة، لكن ما قامت به المليشيات الموصوفة بـ"الجهادية" في مدن الساحل السوري وبلداته لم يكن "فلاً" للأعداء، على طريقة عنترة، بل تحوّل حملة تصفية جسدية بشعة لمدنيين، لا لشيء، سوى أنّهم ينتمون إلى طائفةٍ أخرى غير طائفة أولئك المسلحين الذين جاؤوا مدن الساحل لـ "تطهيرها" من الفلول.

على السلطة الجديدة في دمشق، وهي تتصدّى للمخاطر التي تواجهها، خصوصاً حين تأخذ الطابع المسلح، أن تدرك أنّ مجرّد إعلان ضمّ التنظيمات المسلحة في جيش سوري موحد، إن صدقت النيات، وطابق الفعل ما هو معلن من القول، لا يعني، تلقائياً، تخلي قادتها وأفرادها عن الخطاب "الجهادي" المتطرّف الذي نشأت عليه، وعلى أساسه جرى تأسيسها ومدّها بأسباب العون، فيما يفترض أنّ سورية ولجت عهدأً جديداً يقتضي تأسيس خطابٍ وطني جامع، لا خطاب تصفية الثارات، بعيداً عن سلطة قضاء محايد وقانون قاطع.

أكبر المهام الماثلة في سورية اليوم هي التفريق بين المدنيين وأذرع النظام السابق المتورّطة في الفساد وفي قمع الشعب، والمدنيون، في غالبيتهم، غير مسيّسين، وبسبب القمع الشديد لم ينخرطوا في نشاط معارض للنظام السابق، رغم تذمرهم من سياساته، التي عانوا منها، فيجري وضعهم، تعسّفاً وظلماً، في خانة "الفلول"، المفردة الملتبسة حمّالة الأوجه، لنكتشف أنّ الفلول الحقيقيّين فرّوا بجلدهم وأموالهم إلى خارج سورية، فيما أصبح القتل البشع مصير أبرياء، عُزّل.

قراءة المقال بالكامل