حين ينصت المُستمع إلى تسجيلات المطرب السوري نجيب السراج (1923 - 2003)، يتفهم على الفور سرّ افتخار سوريي حماة بانتماء هذا الفنان إلى مدينتهم. امتلك الرجل صوتاً مفرط العذوبة والرقّة.
ومع إجادته التامة للعزف على العود، تفجّرت أيضاً موهبته التلحينية، فخلّف ثروة من الأغاني التي شدا بها بصوته الفريد، أو التي لحنها ليغنيها مطربون ومطربات لهم مكانتهم في الحياة الغنائية السورية.
في الثانية عشرة من عمره، وجد نجيب السراج في نفسه ميلاً شديداً إلى الغناء، فكان ينجذب إلى كل صوت جميل، ولو كان لبائع متجوّل ينادي على بضاعته، ويجتهد في إعادة غناء ما سمعه، وسط تشجيع الأقارب وزملاء الدراسة.
مع موهبته الغنائية، بدأ نجيب السراج بتعلم العزف على آلة العود على يد معلمه عبد الستار سلامة، ثم صقل عزفه بدروس تلقاها عن عازف العود الحموي الشهير، عمر النقشبندي، وقد مكنه إتقان العزف من إشباع هوايته في التلحين، التي لم تكن جذوتها أقل اشتعالاً من جذوة هواية الغناء
صار الرجل مطرباً وعازفاً وملحناً مكتملاً، لكنه بقي طوال حياته دائراً في المجال المغناطيسي لمحمد عبد الوهاب، متأثراً به وبأسلوبه الغنائي، بل بفكره التلحيني، رغم اطلاعه الواسع على مختلف الاتجاهات الموسيقية في سورية، وأيضاً في مصر التي زارها للمرة الأولى عام 1952، ثم تكرّرت زياراته لها، وإقامته فيها، وتوثقت علاقته بأعلام التلحين بها.
لحن وغنى لسورية، ولمدنها الكبرى، فشدا للعاصمة: "أدمنت حبك يا دمشق" للشاعر خليل خوري، ولحمص من كلمات الشاعر عيسى أيوب: "حمص كم غنيتك وردة وردة"، ولحماة بكلمات الشاعر منذر لطفي: "حماة في خاطري"، ولحلب من نظم الشاعر حسين راجي، بعنوان "هامت الأشواق".
كان طموح نجيب السراج كبيراً، وحين بلغ 20 عاماً رأى أن الحياة الفنية في مدينة حماة لا تلبي تطلعاته، فانتقل إلى العاصمة عام 1943، عقب افتتاح إذاعة دمشق التابعة لسلطة الانتداب الفرنسي، وتعرف إلى عازف الكلارينيت طارق مدحة، وتلقى منه قواعد التدوين الموسيقي حتى أجاده إجادة تامة.
أصبح الشاب العشريني جاهزاً كي يرمي بنفسه وبخطوات واثقة في معترك الحياة الفنية عملياً، سواء بالغناء أو التلحين. وبالفعل، بدأ السراج خطواته بالتراث الشعبي، فاهتم كثيراً بفن "المواليا"، وسجل بعض أعماله لإذاعة صوت العرب، فاتسعت شهرته عربياً، وكان من أثر ذلك تلقيه دعوة عام 1953، للمشاركة بالغناء في حفل تتويج العاهل الأردني الملك حسين.
في القاهرة، التقى السراج كبارَ الموسيقيين، وتعرف إلى محمد القصبجي ورياض السنباطي. وبالطبع، التقى مثله الفني الأعلى محمد عبد الوهاب. كان أثر موسيقار الأجيال في السراج عميقاً، انعكس على طريقته في إنتاج الصوت، وعلى أسلوبه في أداء القصائد والمونولوجات.
كان السراج يغني بأداء شديد الرقي والتهذيب، يقتصد في العُرب والزخارف، كأنه يصر على إبلاغ رسالة إلى مستمعيه، مفادها أنه ينهل من بحر عبد الوهاب ويسير على خطواته، ليس في الغناء فقط، بل في التلحين. حتى في المواويل، جاء إنتاج السراج منها وكأنه استنساخ للموال الوهابي. لم يكن غريباً أن يطلق بعض المهتمين بالغناء على نجيب السراج وصف "عبد الوهاب سورية".
كان اهتمام السراج بالقصائد كبيراً، أحب الرجل الكلمة الفصيحة، والتعبير الرفيع، كانت أول كلمات يلحنها وهو ما زال في حماة قصيدة لوجيه البارودي يقول مطلعها: "إن كنت تنساني فلست تهواني". ولعل قالب القصيدة يشكل الجانب الأكبر من الإرث الغنائي للسراج، ومن هذه القصائد تمثيلاً لا حصراً: "أخت الزهر" لكمال فوزي، و"قالت سآتي في غد" لوجيه البارودي، و"بربك عودي" لعمر حلبي، و"يا صديقة" لمازن النقيب، و"أنشودة دمشق" لعمر أبو ريشة.
لكن من أهم محطاته مع الكلمات الفصيحة تلحينه عام 1958 لقصيدة "بيت الحبيبة" التي نظمها نزار قباني. كانت هذه أولى قصائد قباني التي تعرف طريقها إلى التلحين والغناء، وبها كان السراج أول ملحن ومطرب يكتشف الصلاحية الغنائية في إنتاج قباني.
في ألحانه، اختار السراج طريق الحداثة والتطوير، اقتداءً بمحمد عبد الوهاب. كان يميل إلى الطابع الدرامي في بناء القصيدة أو المونولوج، ويجنح إلى أن يكون البعد التعبيري للحن واضحاً جلياً. ولأن عبد الوهاب كان كثيراً ما يختار الموزع الموسيقي الشهير، أندريا رايدر، لتوزيع ألحانه، قرر السراج أن يسير على الطريق نفسه، فطلب من رايدر توزيع بعض ما وضعه من ألحان، ومنها قصيدة "ليالي الشتاء"، التي كان لحنها مع توزيعها سبباً لارتفاع مكانة الرجل في عموم سورية، بعد أن صار كثير من أهل الفن ينظرون إليه باعتباره أبرع من يلحن القصيدة العاطفية الرومانتيكية.
وضع نجيب السراج الألحان لعدد من نجوم الغناء، وفي مقدمتهم: مها الجابري، وسعاد محمد، وكروان، ومصطفى نصري، وفايزة أحمد، وماري جبران، وفؤاد غازي، وربا الجمال، وأصالة نصري، وعلية التونسية، وياسين محمود، وعدنان صادق، وفتى دمشق، وأجفان الأمير، وغيرهم في سورية ولبنان وبعض البلدان العربية. وفي كل ألحانه، ابتعد الرجل عن النمط التجاري، ورفض التماهي مع الاتجاهات الإنتاجية التي لا تفكر إلا في قيم السوق والأرباح المادية.
تروي السيرة الذاتية البعيدة للسراج، أن والده أخرجه من المدرسة وهو ابن تسع سنوات، بغرض أن يتعلم مهنة الخياطة من عمه. لكن الطفل أصر على مواصلة دراسته، بالرغم من أن الدراسة لم تكن همه الأول، وإنما كانت سياجاً يحتمي به إلى أن تحين فرصة التفرغ للفن. وفي حماة، كان التراث الشعبي زاده الأساس، وعندما مثل أمام لجنة الاختبار في إذاعة دمشق منتصف الأربعينيات، غنى أعمالاً لمحمد عبد الوهاب ورياض السنباطي وأم كلثوم.
سأله أعضاء اللجنة إن كان يحفظ شيئاً من الأغاني التراثية الحموية، فأمطرهم من محفوظه الكبير. لكن السراج كان يعلم في نفسه، أن انغماسه في التراث الشعبي لن يلبي طموحه في بناء سمعة غنائية وتلحينية خاصة، فأخذ يتحول تدريجياً من "التراثي" إلى "الحداثي"، ومن "الحموي" إلى "المصري"، ثم اختزل ما هو مصري في شخص عبد الوهاب.
ومن التجارب التي توضح مدى تأثر نجيب السراج بمحمد عبد الوهاب، تلحينه وغناؤه لأبيات من قصيدة البردة الشهيرة، التي نظمها الإمام البوصيري، في المديح النبوي، فبالرغم من أن عبد الوهاب لم يخض تجربة تلحين القصائد الصوفية، ولم يكن أمام السراج نموذج يقتدي به، لكن المستمع يشعر أنه أمام عمل مشترك لعبد الوهاب والسنباطي معاً.
يرى بعض المهتمين بالغناء السوري أنّ السراج امتلك قدرة صوتية وغنائية وتلحينية ليست قليلة، لكنه "ظلم نفسه" بإرادته، حين اختار تبعية فنية كاملة لعبد للمدرسة الغنائية المصرية عموماً، ولعبد الوهاب خصوصاً. كان ذلك السبب الرئيس لانحسار شهرته إلى داخل سورية، وتراجع الاهتمام به في مصر، حيث عبد الوهاب "الأصلي". لكنّ آخرين يرون أن للرجل أعمالاً تقربه من طريق الاستقلال الفني، ولا سيما في أعماله ذات الطابع الشعبي، فالسراج لم يترك هذا الجانب في الكلية، وإنما تخفّف منه لحساب القصائد.
والحقيقة، أن السراج امتلك صوتاً جميلاً جداً كانت فيه مسحة وهابية طبيعية لم يخترها، لكنه في مراحل تالية اتكأ عليها، ونماها، واستثمر فيها بعدما رأى ما تحققه من شهرة ونجاح واحترام. ترك الرجل ما يقرب من 320 لحناً، ستبقى جزءاً مهماً من التاريخ الغنائي السوري في القرن الماضي.
