تؤكّد الأرقام (بحسب قناة المنار الناطقة باسم حزب الله)، أن الخروقات الإسرائيلية للهدنة التي أُعلنت في 27 نوفمبر/ تشرين الثاني 2024 وحتى أواخر إبريل/ نيسان 2025، تزيد عن ثلاثة آلاف، تمتد من 1516 خرقاً برّيّاً، و73 خرقاً بحريّاً، و1470 خرقاً جويّاً، وقد تخطّى عدد الشهداء 152 والجرحى 349 بمحصلة تبلغ حوالي 500. وهي أرقام أولية تكشف، في حال أردنا أن نقسّمها على عدد الأيام التي تفصل بين تاريخ سريان "الهدنة" وآخر شهر نيسان، أن معدلها بلغ يومياً حوالي 20 خرقاً، وأن عدد الضحايا تخطى الأربعة يوميّاً، ناهيك عن أن الجيش الإسرائيلي لا يزال يحتل تلالاً داخل الأراضي اللبنانية (غير التي بين مزارع شبعا وتلال كفرشوبا). بما يعني أن تسميتي "خروقات" و"هدنة" لا تعبّران عن مجمل الحالة، بقدر ما يمكن القول إنها حرب يعيشها اللبنانيون بكل تفاصيل تلك التسمية، حرب مستمرّة وإن بعناوين مختلفة.
فإن كان لهذه الأرقام أن تتكلم، ما عساها تفعل إلا أن تعيدنا إلى الأساس، إلى البحث في إعادة تعريف حالة "الهدنة" التي يُفترض أن تكون وقفاً تامّاً للأعمال القتالية، كما وتعيدنا إلى تعيين مصطلح "خروقات" نفسه، فالهدنة، في الحالة اللبنانية، ليست إلا وقفاً لإطلاق النار من حزب الله فقط، على خلاف الآلية التي تعامل لبنانيون كثيرون والمجتمع الدولي معها، وعلى خلاف ما يلتفّ حزب الله وما تبقى من قاعدته الشعبية عليه. كما أن مصطلح الخروقات، ولكي يعبّر عن مضمونه حقاً، من المفترض أن ينطبق على عدد أقل من ذلك بكثير، لأن الخرق، ولكي يكون خرقاً، هو مجرّد خرقٍ ضئيلٍ لحالة سائدة في المجمل، لا أن تكون حالة الاستهدافات والغارات هي السائدة، وأن تكون فترات وقف الأعمال القتالية والاعتداءات الحالة الاستثنائية، وخصوصاً أنها في تناقض صارخ مع ما نلمسه حين نعاين أن الحرب الإسرائيلية على لبنان لم تنته، لا على مستوى الأهداف ولا على مستوى التكتيك والاستراتيجية، بقدر ما هي مستمرّة باستمرار زعم الأهداف التي قامت الحرب من أجلها أساساً. وها هي إسرائيل تديرها اليوم، وعلى المنوال الذي امتدت فيه منذ أعلن حزب الله "حرب المساندة" إثر بداية حرب الإبادة على غزّة وما تبعها في مجمل الأراضي الفلسطينية بعد عملية طوفان الأقصى في 7 أكتوبر (2023)، وتكثّفت على لبنان في سبتمبر/ أيلول 2024، ونراها اليوم مستمرة بعد سريان وقف إطلاق النار، فالجيش الإسرائيلي يستكمل أعماله الحربية وضرباته النوعية تحت وابل إحصاء حزب الله والسلطات اللبنانية وأجهزتها العسكرية ولجنة مراقبة الـ"خروقات".
يحافظ العدو على وجوده في الجنوب اللبناني، يحتل القرى ويمنع ناسها عنها، يقصف ويدمّر ويغتال
فالعدو يحافظ على وجوده في الجنوب اللبناني، يحتل القرى ويمنع ناسها عنها، يقصف ويدمّر ويغتال، أي أنه ينظر إلى المرحلة بعين المنتصر، بوصفها استكمالاً للحرب، لكن بوتيرة متدنية جرّاء استسلام الخصم، وبكلفة أقل، سواء لناحية الخسائر المادية، والبشرية، والمادية، ولناحية مخزونه من الأسلحة، محقّقاً بذلك أهدافه المباشرة المزعومة، وفي مقدّمها تأمين راحة مستوطنيه وأمنهم في شمال الاراضي المحتلة، كما الأهداف غير المباشرة التي يشي سياق الأمور بأنها تتخطّى كل ما يصرّح به، حيث يستمر الكلام عن بقاء قوات الاحتلال في الأراضي اللبنانية إذا لم ينفّذ الجيش اللبناني انتشاره الكامل ومصادرة الأسلحة. إذن، هي هدنة تشبه كل شيء إلا الهدنة بالمعنى المتعارف عليه، والذي تنصّ جميع الاتفاقيات والأعراف الدبلوماسية والعسكرية عليه، بقدر ما تشير إلى انفتاح الطريق أمام الأهداف الحربية دون أي عقبات. لذلك فهي، وعلى منوال ما تبدو عليه، مجرّد اتفاق إذعان، إعلان استسلام، من دون الجرأة على مصارحة اللبنانيين به وبتداعياته.
وبناء على السابق، وإذا ما نظرنا إلى الحالة من منطلق التعريف الذي وضعه الجنرال والمنظّر العسكري الألماني كارل فون كلاوزفيتش للحرب، معتبراً أن الحرب ليست إلا امتداداً للسياسة باعتماد وسائل أخرى. نرى اليوم، وعلى منوال قلب المعادلات، وعلى منوال الفرادة اللبنانوية المعهودة التي لا تنطبق على غيرها من التاريخ البشري، ترانا أمام معادلة لا تشبه بقية المعادلات، وذلك حين أصبحت الحرب امتداداً للحرب لكن بوسائل أخرى.
ليست هدنة بقدر ما هي استسلام يزيد من تكثيف الانزلاق إلى كل ما يثبت نقيضها
والامر ليس جديداً من ناحية عدو متغطرس شره، أو من ناحية دولة تسيطر عليها قوى سياسية تقلب المعادلات والمعايير رأساً على عقب، فالانتصار في حالة لبنان هزيمة، والهزيمة انتصار. الديمقراطية التوافقية هي، وبكل تفاصيلها، مجرد ديكتاتورية. كلها بمعانٍ خاصة جدّاً اصطلحت الجماعات اللبنانيّة دون مجمل العالم عليها، إلا أن ذلك مجرّد مسار متناسق مع اعوجاج المنطق المعتمد في دولة تعودنا فيها على قلب المفاهيم والتسميات، أو بالأحرى على مجرّد خلطة غريبة عجيبة لا تكفّ عن الظهور، ولا يكفّ الجمهور عن الاقتناع والمطالبة بها، والدفاع عنها، والتصفيق لها، بمعزلٍ عن نفعها أو ضررها، لذلك ترانا في انتقالٍ دائمٍ من انهيار إلى انهيارٍ أعنف وأشد خطراً.
هي، إذن، هدنة إذا ما أردنا غضّ النظر عن أنها ليست هدنة، بقدر ما هي استسلام يزيد من تكثيف الانزلاق إلى كل ما يثبت نقيضها. وبين هذه وتلك يبقى أن مجمل اللبنانيين عموماً، والجنوبيين خصوصاً، يعيشون بين مطرقة التعنت والشراهة من ناحية، وتداعيات التزييف والبهلوانية والتذاكي والالتفاف من ناحية ثانية، في انفصاميّةٍ تزعم شيئاً وتُمارس شيئاً مختلفاً تماماً لا يطمئِن بقدر ما يفتح كل احتمالات التداعي المترافق مع انزلاق إلى دوّامة جديدة من الانهيار والعنف والدمار والموت.
