هذا الحذر التركي من دمج "قسد" في الدولة السورية

منذ ٢١ ساعات ١٨

لم يكن مفاجئاً أن يُسارع الرئيس التركي، رجب طيّب أردوغان، إلى الترحيب بالاتفاقية التي أبرمها الرئيس السوري أحمد الشرع مع مظلوم عبدي قائد قوات سوريا الديمقراطية (قسد) لدمجها في الدولة السورية الجديدة. مع ذلك، لا يزال موقف أنقرة حذراً من هذه الاتفاقية لثلاثة اعتبارات: أوّلها أن الاتفاقية لم تُحدّد بوضوح شكل الاندماج، سيّما على المستويات العسكرية، حيث لم يتّضح ما إذا كان هذا الاندماج سيكون كتلةً عسكريةً أو أفراداً. كما أن أنقرة تُريد أن تُبقي على خيار التحرّك العسكري لمعالجة مُعضلة الوحدات الكردية على الطاولة، في حال فشلت الاتفاقية أو جرى تطبيقها بطريقةٍ لا تُعالِج هواجسها. والثالث أن فترة تنفيذ عملية الاندماج حتى نهاية العام الجاري قد تجلب بعض التحدّيات التي يُمكن أن تؤدّي إلى إفشالها.

ويُمكن تفسير الحذر التركي في مقاربة الاتفاقية على أنه مُصمّم بدرجة رئيسة ورقةَ ضغط على الوحدات الكردية للمضي في تنفيذ الاتفاقية، ولتحقيق مطالب أنقرة، خصوصاً فيما يتعلّق بإبعاد قيادات حزب العمال الكردستاني ومقاتليه، المنضوين في الوحدات إلى خارج سورية، فضلاً عن انتظار ما إذا كانت هذه الاتفاقية ستُفضي، في نهاية المطاف، إلى انسحاب الولايات المتحدة من سورية. على الرغم من أن الاتفاقية (تدعمها واشنطن) تُعطي مؤشّراً قوياً على قدرة أنقرة وواشنطن على تحقيق انسجام في سياستهما إزاء ملفّ الوحدات الكردية، والملفّ السوري عموماً، إلا أن الرئيس دونالد ترامب مُتقلّب، ولا توجد ضمانات لتحقيق الانسحاب الأميركي في سورية. ولا ينبغي هنا تجاهل إسرائيل عنصرَ ضغطٍ على سياسة ترامب في سورية.

لا تزال النقاط الجوهرية في اتفاقية الدمج غير واضحة تماماً، وتحتمل كثيراً من التأويلات المتناقضة

مع ذلك، الاتجاه التركي العام هو لدعم الاتفاقية وإنجاحها بالنظر إلى الفوائد الكبيرة التي ترجع على تركيا، ويُمكن تلخيصها في ثلاث فوائد رئيسة. أولاً، تجنّب الخيار العسكري لمعالجة مُعضلة الوحدات الكردية، وما يترتّب عليه من مخاطر على صعيد عملية السلام الجديدة بين أنقرة وحزب العمّال الكردستاني، وعلى صعيد علاقتها مع إدارة ترامب. وثانياً، توفير ظروف مناسبة لإنجاح عملية الحلّ الجديدة مع الحزب العمّال، بالنظر إلى أن ملفّ الوحدات الكردية يُشكّل تحدّياً رئيساً لهذه العملية. وثالثاً، توفير العوامل المناسبة للرئيس أحمد الشرع لإعادة توحيد سورية، وتحقيق الاستقرار فيها، بأقل التكاليف، ولتجنّب عوامل ضغط جديدة على علاقة الإدارة السورية الجديدة بالدول الغربية، وفي مقدّمها الولايات المتحدة.

ساهمت ثلاثة سياقات مهمّة في إنتاج اتفاقية دمج "قسد" في الدولة السورية الجديدة. أوّلها الخطوات المتقدّمة التي حقّقتها عملية السلام بين تركيا وحزب العمّال الكردستاني، بدعوة عبد الله أوجلان أخيراً التنظيم إلى إلقاء السلاح وحلّ نفسه. والثاني المسار التفاوضي القائم بين أنقرة وإدارة الرئيس ترامب منذ تولّيه السلطة. والثالث المسار التفاوضي القائم منذ أشهر بين الشرع ومظلوم عبدي. وتبدو ديناميكيات هذه المسارات الثلاثة مؤثّرة في بعضها بعضاً. لذلك، يُمكن النظر إلى اتفاقية الدمج أنها نتاج مباشر لانخراط تركي أميركي في تشكيلها. ومن البديهي أن الشرع أخذ، بعين الاعتبارات، مصالح تركيا في مفاوضاته مع عبدي قبل الوصول إلى الاتفاقية.

الاتفاقية ستُبعد خيارات الحسم العسكري التركي لحالة "قسد" في المستقبل المنظور

حقيقةً، لا تزال النقاط الجوهرية في اتفاقية الدمج غير واضحة تماماً، وتحتمل كثيراً من التأويلات المتناقضة، فإن فرص نجاح الاتفاقية تتوقّف على مجموعة من العوامل، في مقدمها مسار عملية السلام الجديدة بين تركيا وحزب العمّال الكردستاني، وما إذا كانت التيّارات المناهضة لهذه العملية، سواء داخل الحزب أو داخل الوحدات الكردية، قادرة على التأثير السلبي في تحقيق الاندماج، فضلاً عن أن العوامل المُحرّكة للديناميكيات السورية المحلّية لا تزال غير مستقرّة تماماً، وستستغرق فترة كي تنضج بشكل واضح. في ضوء ذلك، يُمكن القول إن الاتفاقية ستُبعد خيارات الحسم العسكري التركي لحالة "قسد" في المستقبل المنظور. ومن شأن هذا الأمر أن يُوجِد هامشاً مناسباً أمام أردوغان للمضي في عملية السلام مع أوجلان، وفي تطوير الانسجام مع إدارة الرئيس ترامب، إلى انسجامٍ في أوسع في السياسات تجاه التحوّل السوري عموماً.

... لا تقتصر أهمية اتفاق دمج "قسد" على تعزيز فرص إعادة توحيد سورية، ومواجهة مشاريع التقسيم التي تُهدّدها في الأطراف في الشمال والساحل والجنوب، وهي مسألةُ تنظر إليها تركيا باهتمام كبير لتعزيز استفادتها من التحوّل السوري، بل تشمل أيضاً الجهود التركية لتعزيز القبول الدولي والغربي على وجه الخصوص بإدارة الرئيس أحمد الشرع، وتعزيز قدرة الأخير على التعامل مع التحدّيات الأمنية الداخلية، خصوصاً أن التمرّد الذي قادته خلايا النظام المخلوع في منطقة الساحل أخيراً، أظهر أن تحقيق الاستقرار الأمني الداخلي في نطاق واسع يواجه تحدّياتٍ كبيرة، ويُمكن لهذه التحدّيات في النهاية أن تشكّل تهديداً خطيراً لمساعي إعادة توحيد سورية ونجاح عملية التحّول. وتُظهر هذه الجوانب أن مقاربة تركيا لاتفاقية دمج "قسد" تتجاوز التعامل مع التهديد الذي تُشكّله الوحدات الكردية لها، إلى توفير العوامل المُساعدة للرئيس الشرع لتعزيز أركان السلطة الجديدة، ولتعزيز الهوامش لديه للتعامل مع تحدّيات مشاريع التقسيم وزعزعة استقرار المرحلة الانتقالية.

قراءة المقال بالكامل