تواصل دولة الاحتلال الإسرائيلي اللعب على وتر الأقليات الدينية والعرقية في سورية في محاولة استغلالها لخدمة مصالحها، والإبقاء على البلد الذي يحاول النهوض، هشاً ضعيفاً متفرقاً، عملاً بمبدأ فرق تسد، الذي انتهجته ولا تزال في المنطقة بأسرها، بطرق مختلفة، لكنه يكتسب زخماً خاصاً في الحالة السورية منذ سقوط نظام بشار الأسد في 8 ديسمبر/كانون الأول الماضي. وتستمر إسرائيل بإرسال إشارات إلى دروز سورية بأنها ستحميهم، وبكلمات أخرى، تريدهم إلى جانبها، على الرغم من تأكيد مشايخ دروز سورية رفض أي تدخّل إسرائيلي. كما تحاول إسرائيل بث الخوف في نفوس الدروز والأقليات السورية الأخرى، من قبيل العلويين والأكراد، عاملة على تصيّد أخطاء النظام الجديد أو جماعات موالية له.
وتبذل دولة الاحتلال هذا الجهد لاستمالة دروز سورية إلى جانب خطواتها العسكرية في الأراضي السورية، وكل ذلك بحجة حماية أمنها وعدم السماح لجهات "جهادية" بأن تكون على "حدودها" التي هي أصلاً أراضٍ سورية محتلة في جزء منها. ومن بين أدواتها البارزة استغلال الأوضاع الاجتماعية والاقتصادية للسوريين والنقاش السياسي حول وجهة البلاد وشكل حكمها المستقبلي. وفي حالة دروز سورية تحديداً تحاول استمالتهم، تارة بالإعلان عن تصاريح لدخول سوريين للعمل في هضبة الجولان المحتل، وتارة بالإعلان عن إدخال طرود مساعدات غذائية لهم، عدا عن الخطوات غير المعلنة. ويساهم في الدفع بهذا الاتجاه، الزعيم الروحي للدروز في فلسطين المحتلة، الشيخ موفق طريف، المقرّب من السلطات الإسرائيلية، والذي يواصل التلويح بورقة أن دروز سورية في خطر.
ترسيخ الوجود في القنيطرة واستمالة دروز سورية
وتبرز في هذا السياق محاولة إسرائيل ترسيخ وجودها في محافظة القنيطرة السورية عبر استمالة أهالي المنطقة وخصوصاً دروز سورية من خلال حزمة إغراءات اقتصادية وخدمية، مستغلةً الأوضاع الإنسانية الصعبة في ظل غياب مؤسسات الدولة السورية الجديدة. ويقدّم الاحتلال عروضاً للسكان المحليين تتراوح بين فرص عمل داخل الأراضي المحتلة برواتب مرتفعة، وتقديم مساعدات غذائية وطبية، وبناء مدارس ومستشفيات، وتمديد شبكات كهرباء ومياه. وتصطدم هذه المحاولات بجدار رفض شعبي واسع، من أهالي القنيطرة عموماً ومن أبناء القرى الدرزية على وجه الخصوص. فبينما تحاول إسرائيل توظيف الانتماء المذهبي عبر دعوة وجهاء دروز لزيارة الجولان المحتل والالتقاء بالشيخ موفق طريف، يرفض المشايخ والوجهاء بمعظمهم هذه الدعوات، معتبرين أنها "استغلال لانتمائنا الديني لتلميع صورة الاحتلال". كما تأتي هذه الخطوات بالتزامن مع توسع عسكري إسرائيلي غير مسبوق، حيث أقامت قوات الاحتلال 12 موقعاً عسكرياً جديداً في محافظة القنيطرة، مجهزة بمرافق سكنية وطرق معبدة، ما يُنذر بتحويل المنطقة إلى مستوطنات عسكرية ذات وجود طويل الأمد.
"فرانس برس": وفد يضم عشرات رجال الدين السوريين الدروز يستعد للتوجه نحو إسرائيل اليوم الجمعة في زيارة دينية
وكشفت مصادر خاصة بـ"العربي الجديد" عن مساعٍ إسرائيلية مكثفة لترتيب زيارة 100 شخصية درزية من قرى القنيطرة وريف دمشق الجنوبي الغربي كحضر وعرنة إلى الجولان المحتل، للقاء الشيخ موفق طريف، وذلك بالتنسيق مع جيش الاحتلال. كما أفادت وكالة فرانس برس أمس بأن وفداً يضم عشرات رجال الدين السوريين الدروز يستعد للتوجه نحو إسرائيل اليوم الجمعة في زيارة دينية. ويعتزم رجال الدين الدروز أن يعبروا برّاً من الأراضي السورية باتجاه إسرائيل من خلال بلدة حضر الحدودية التي تقع في ريف القنيطرة، وزيارة مقام النبي شعيب، ولقاء الشيخ طريف.
وقالت المصادر التي تحدثت لـ"العربي الجديد" إن إسرائيل تحاول إغراء الأهالي عبر وعود بـ"تحسين أوضاع الطائفة أمنياً وسياسياً"، لكن الرفض كان حاسماً من قبل معظم مشايخ ووجهاء الطائفة في هذه القرى، مؤكدين أن "الدم السوري أمانة لا تُباع بمساعدات وإغراءات مادية أو بتجييش مذهبي مفتعل"، كما قال أحد وجهاء حضر لـ"العربي الجديد". وأضاف: "إن دعوتنا للجولان محاولة لضعضعة هويتنا السورية. نحن لسنا ورقةً في يد الاحتلال. دماء شهدائنا من الجولان والقنيطرة تربطنا بالأرض، وليس بأحد آخر، نحترم الشيخ طريف لمكانته الدينية في الطائفة، لكننا نعتبر أننا لنا انتماءنا الوطني وله انتماء آخر من حيث السياسة وهذا الأمر لا يعنينا".
كما قال أحد مشايخ بلدة حضر، طالباً عدم ذكر اسمه، لـ"العربي الجديد": "تربطنا بدروز الجولان وفلسطين المحتلة أواصر قرابة ودم، لكن هذا لا يعني أن أحداً منا تخلى عن انتمائه لأرضه ووطنه. كلٌ يرى الأمور من زاويته ووفق مصلحته سياسياً، ونحن لا نرى مصلحتنا إلا في سورية، فهنا أرضنا وهي انتماؤنا، ولسنا مستعدين للتخلي عن انتمائنا مقابل أي مغريات، والزيارة المطروحة جاءت بدعوة من الداخل الفلسطيني، ولسنا ملزمين بها". ونفى الشيخ وجود أي ضغوط على وجهاء ومشايخ الطائفة في حضر من قبل الجانب الآخر، مردفاً: "عندما نريد أن نزور مقاماتنا الدينية في الجولان وفلسطين فسيكون ذلك بعد رحيل من احتلهما، نحن لا نساوم على كرامتنا وتاريخنا يشهد على ذلك".
وأشار إلى أن "من يريدوا تلبية دعوة الزيارة فهم أحرار وهم قلائل، وليسوا من الوجهاء أصلاً، ولكن لن نسمح أن يكون ذلك وصمة عارٍ على الطائفة". وأوضح أن "هناك آخرين من أبناء قرى القنيطرة من باقي الطوائف في سورية متحمسون للذهاب للعمل في الأراضي المحتلة، وأنا لا ألومهم رغم رفضي الشخصي القاطع لذلك كونه استغلالاً إسرائيلياً واضحاً لحاجات الناس الفقراء، إنما ألوم الحكومة في دمشق وتهميش المحافظة، وترك الأهالي فيها يلقون مصيرهم ويواجهون الاحتلال عزّلاً منفردين، وكأننا لسنا مواطنين من هذه البلاد". وقال إنه لا يعرف أعداد الراغبين بتلبية دعوة الزيارة إلى الجولان، مرجحاً أنها ستكون قليلة إن حدثت.
وبخصوص المساعدات والعروض الإسرائيلية لأهالي البلدة والمحافظة، قال الشيخ لـ"العربي الجديد" إن "القسم الأكبر من البلدة ومن المحافظة رفض أي مساعدات أو عروض إسرائيلية، لكن هنالك العديد من العائلات المعدمة قبلت المساعدات سواء من حضر أو من القرى الأخرى التي يقطنها أخوتنا السنة وطوائف أخرى، وأنا لا أرى أن هؤلاء قد يستحقون أن يتم تخوينهم، فمن يرَ ظروف الناس يبتعد عن الملامة، هنالك أسر كثيرة في البلدة والمحافظة تعاني الفقر المدقع، وحتى الآن لم تتقدم الحكومة الانتقالية بشكل جدي لتفقد أحوال الناس، شأنها شأن النظام السابق تضع المحافظة في آخر أولوياتها".
رفض أهالي العديد من القرى في القنيطرة استلام مساعدات إسرائيلية
وفي قرية المعلقة بالقنيطرة، رفض الأهالي قبل نحو شهر استلام شحنة مساعدات إسرائيلية قدمتها قوة عسكرية مدرعة، فيما دخل مختار القرية خضر العقلة بسجال مع دورية الاحتلال، وقام بطرد الجنود بقوله: "اخرجوا من أرضنا. المساعدات لا تغسل عار الاحتلال". وتكرر المشهد في قرى الدواية والسويسة وعرنة، حيث أحرق الأهالي هذه المساعدات ومنهم من لم يسمح للقوات الاسرائيلية بإدخالها لمنطقته أبداً. وقال محمد البكر من أبناء القنيطرة لـ"العربي الجديد" إن "دورية لقوات الاحتلال وقفت أمام منزلي وسألتني عن الواقع المعيشي والخدمي في القرية وعرضت عليّ العمل في مستوطنات الجولان براتب 100 دولار يومياً قبل أسابيع، لكنني رفضتُ وقلتُ لهم أن يبقى أطفالي جوعى أفضل من أن يأكلوا من مال يسرقه محتل من أخوتي في الجولان وفلسطين".
مساعدات غذائية وتطمينات أمنية
وفي إطار الضغط الاقتصادي، يقوم جيش الاحتلال بعمليات إحصاء سكاني في قرى القنيطرة، منذ شهر ونصف، ويقدّم خلالها فرص عمل داخل إسرائيل، لكن الأهالي دائماً يجيبون بالرفض. وللتضييق على أهالي المحافظة، تلجأ قوات الاحتلال لاعتداءات تطاول أرزاق الأهالي، كإطلاق النار على قطعان الأغنام كما حدث في قرية الرفيد عدة مرات، مما أدى إلى نفوق 100 رأس، أو بتجريف الأراضي الزراعية الخاصة وقطع الأشجار لفتح الطرقات أمام آلياتها العسكرية. وهذا ما يراه الأهالي خطوة لحصارهم في أرزاقهم، لكنهم على الرغم من ذلك يحاولون الصمود ومواصلة مقاومة محاولات الإرضاخ القسري. وقالت مريم من بلدة أوفانيا بريف القنيطرة: "أطفالنا ينامون جوعى، لكننا نرفض أن نأكل من يدٍ حرقت بيوتنا، الاحتلال يريدنا عبيداً، ولن نكون".
وضمن التنفيذ الفعلي للمخططات الإسرائيلية في سورية، تبرز تعليمات وزير الخارجية جدعون ساعر، لنقل طرود غذائية، مساعدات إنسانية لصالح دعم الدروز في سورية. وزعمت صحيفة معاريف العبرية، أنه في إطار عملية نُفذت خلال الأسابيع الأخيرة، أدخلت إسرائيل حتى اليوم 10 آلاف طرد، من المساعدات الإنسانية للدروز المقيمين في مناطق القتال داخل سورية، وأن هذه العملية نُفذت بالتنسيق والتعاون مع موفق طريف، وبالتعاون مع المجلس الديني الدرزي، والجيش الإسرائيلي، وجهات أخرى في المنطقة. وتحتوي الطرود على مواد أساسية مثل الزيت، والملح، والطحين، والسكر، والأرز وغيرها، ونُقل معظمها إلى جبل الدروز في السويداء، بينما تم إيصال بعضها إلى قرى درزية قريبة من الحدود. وزعم ساعر في وقت سابق أنه "لدينا تحالف شجاع مع إخواننا الدروز. من حقنا أن نقدّم لهم المساعدة. في منطقة سنبقى فيها دائماً أقلية، من الضروري والصحيح مساعدة الأقليات الأخرى". تأتي تصريحات ساعر في وقت، تحتل فيه إسرائيل جزءاً من بلادهم وتنشئ منطقة عازلة بعمق 80 كيلومتراً داخل الأراضي السورية وتتمركز على سفوح جبل الشيخ، كما تواصل تهديد النظام الجديد وتحذّر من اقتراب القوات السورية من الحدود التي حددتها هي. وقبل ثلاثة أيام، نفّذ سلاح الجو الإسرائيلي 40 غارة في جنوب سورية، قال جيش الاحتلال إنه استهدف خلالها أنظمة رادار، ودبابات، وأسلحة مختلفة، ومخازن ذخيرة، ومواقع عسكرية.
كاتس: إسرائيل أوضحت أن وجودها في جبل الشيخ السوري طويل الأمد وغير محدد بجدول زمني
ومن خلال إشاراتها للدروز تحاول دولة الاحتلال عملياً الترويج إلى أنها سندهم والظهر الذي يحميهم، وأنها تعتزم الحفاظ على علاقات حسن الجوار معهم، وكل ذلك ضمن مخططاتها لاستغلالهم وإثارة النعرات الطائفية والفئوية لدى السوريين، من أجل الدفع باتجاه تقسيم سورية. وعليه، أعاد وزير الأمن الإسرائيلي، يسرائيل كاتس، يوم الأربعاء الماضي، تأكيد ما زعم أنه التزام إسرائيل بالعمل لمنع أي اعتداء من قبل النظام الجديد أو من قبل جهات "جهادية" على المدنيين السوريين المقيمين شرق جبل الشيخ وفي جبل الدروز في سورية. ويخطط جيش الاحتلال لإقامة طويلة الأمد على سفوح جبل الشيخ المحتل. وأكد كاتس، خلال جولة قام بها على الجبل برفقة مسؤولين عسكريين أن "إسرائيل أوضحت أن وجودها في جبل الشيخ السوري (في إشارة إلى الجزء الذي احتلته حديثاً) طويل الأمد وغير محدد بجدول زمني".
وكشفت صور أقمار اصطناعية نشرتها صحيفة واشنطن بوست الأميركية أواخر الشهر الماضي عن بناء 7 قواعد عسكرية إسرائيلية جديدة في القنيطرة، تمتد من جبل الشيخ إلى حوض اليرموك، مع شبكة طرق تربطها بالجولان المحتل. وتضم القواعد مرافق سكنية ومستوصفات ومراكز قيادة، ما "يؤكد نيّة الاختلال بالبقاء الطويل" وفق نشطاء من المحافظة. وحول ذلك، قال أحد مزارعي قرية معرية من ريف درعا الغربي الجنوبي والواقعة على الحدود الإدارية مع محافظة القنيطرة في منطقة حوض اليرموك: "دمّروا أراضينا الزراعية لشق طرق عسكرية، منعونا من دخول 3000 دونم، ومواشينا تموت جوعاً. لكنّ الأرض أغلى من الخبز". فيما أكد رامي من بلدة حضر في القنيطرة أن الاحتلال انتهى منذ أسابيع من تحصين المقرات التي احتلها في سفح جبل الشيخ وعلى التلال المحيطة، والإنشاءات التي بناها واضحة ومخدمة بشكل كامل يتضح للعيان، مشيراً إلى أن ذلك يشي بأن الاحتلال يؤكد نيّته بالبقاء. وخلال ثلاثة أشهر ونصف الشهر، خرج آلاف الأهالي في تظاهرات بمدينتي خان أرنبة وجباثا الخشب تنديداً بالاحتلال والتوغلات التي ينفذها داخل المحافظة، رفعوا فيها علم سورية ورددوا هتافات تؤكد هوية القنيطرة والجولان السورية، ورفضوا بقاء إسرائيل.
في غضون ذلك، تتواصل الاعتداءات العسكرية الإسرائيلية على سورية، وآخرها أمس الخميس عبر غارة استهدفت ما قال الجيش الإسرائيلي إنه مركز تابع لحركة الجهاد الإسلامي في دمشق "استُخدم للتخطيط وتوجيه الأنشطة للجهاد ضد إسرائيل". وأكدت مصادر محلية لـ"العربي الجديد" أن الهجوم استهدف منزلاً سكنياً بالقرب من دوار حمشو في مشروع دمر، شمال غربي دمشق. لكن المتحدث باسم "الجهاد" محمد الحاج موسى قال إن العدوان استهدف منزلاً خالياً وليس مقراً قيادياً للحركة.
