هل تخسر الحقيقة معركتها الأخيرة على منصات التواصل؟

منذ ١ شهر ٣٢

بي بي سي
"الأكاذيب تسافر حول العالم قبل أن ترتدي الحقيقة حذاءها".هذه المقولة نسبت إلى أكثر من شخصية تاريخية تنتمي إلى حقب ما قبل الإنترنت، ولكنها تصف بدقة على ما يحدث في عالمنا اليوم مع انتشار وسائل التواصل الاجتماعي وما بات لها من تأثير كبير على شتى نواحي حياتنا.
وعندما قررت مجموعة "ميتا" في الآونة الأخيرة التخلي عن برنامج تدقيق الحقائق على منصات التواصل التابعة لها "بداية من الولايات المتحدة"، تفجرت مناقشات ساخنة، وأُثيرت تساؤلات عدة حول مستقبل "الحقيقة" وتأثير القرار على مستخدمي تلك المنصات.
فبينما يرى بعضهم أن تدقيق الحقائق أداة تؤدي إلى تكميم حرية التعبير، يحذر آخرون من أن القرار سينتج عنه طوفان من المعلومات المضللة وخطابات الكراهية والتحريض على العنف. فكيف يعمل هذا البرنامج؟ وماذا يعني إلغاؤه للمستخدم؟

تقصي الحقائق والتأكد من صحة المعلومات ممارسة بدأتها وسائل الإعلام التقليدية، إذ لطالما سعت الصحف المرموقة إلى نقل الحقائق وتحري الدقة وتلافي الأخطاء ووضع الضوابط والمعايير الأخلاقية والمهنية.

في بدايات القرن العشرين في الولايات المتحدة، على سبيل المثال، كانت هناك هيئات مثل "مكتب تحري الدقة والنزاهة" الذي أسسته صحيفة "نيويورك ورلد" عام 1913 للتحقيق في شكاوى القراء وتصحيح الأخطاء والمعلومات غير الدقيقة. وفي العقد الثاني من القرن العشرين، بدأت مجلة تايم الأمريكية في توظيف أشخاص مهمتهم الرئيسية التثبت من دقة المقالات قبل نشرها.
ومع تزايد شعبية وسائل التواصل الاجتماعي في القرن الحادي والعشرين، برزت تحديات جديدة، إذ أصبحت منصات مثل تويتر (إكس حاليا) ويوتيوب وفيسبوك تربة خصبة لنشر المعلومات المغلوطة والمضللة. وشهد عام 2016 نقطة محورية مهمة، بعد الاتهامات الأمريكية لروسيا بمحاولة التأثير على نتائج الانتخابات الرئاسية بطرق من أبرزها نشر معلومات مضللة على وسائل التواصل الاجتماعي. وكان فيسبوك أول منصة كبرى تستعين بمدققي حقائق مستقلين بهدف رصد المحتوى الذي يشمل معلومات خطأ، والحد من انتشاره. وسارت منصات أخرى على نهج مشابه، وبدأت في اتخاذ تدابير مثل وضع علامات على المعلومات المضللة، والاستعانة بالذكاء الاصطناعي في رصد المحتوى المغلوط وبالمستخدمين أنفسهم لكتابة تصحيحات.

وفي عام 2020 الذي شهد الانتخابات الرئاسية المثيرة للجدل بين دونالد ترامب وجو وبايدن، وكذلك تفشي وباء كوفيد-19، بدأت المنصة في وضع علامات على المنشورات التي كان يُرجح احتواؤها على معلومات مضللة أو خاطئة، مشفوعة برابط لمنظمات وهيئات تعتبر محل ثقة، مثل منظمة الصحة العالمية وغيرها من الهيئات الصحية والحكومية، لتزويد المستخدمين بمعلومات دقيقة تتعلق بمحتوى المنشور. وفي الأعوام التالية، وسعت منصة فيسبوك من برنامجها لتدقيق الحقائق بحيث بات يشمل أكثر من 130 بلدا وما يزيد عن 60 لغة، وقالت إن تكلفته فاقت 100 مليون دولار.

1_1_11zon

منظمات تدقيق الحقائق تقيم المحتوى المنشور على وسائل التواصل وترصد المعلومات الكاذبة كي يتم التحقق منها مرة أخرى. وعندما يقرر مدققو الحقائق أن محتوى ما زائف أو مضلل، فإن ميتا (التي تمتلك فيسبوك وإنستجرام وواتساب) تتخذ إجراءات لتقليص عدد المستخدمين الذين يصل إليهم ذلك المحتوى بشكل كبير. ومدققو الحقائق ليست لديهم سلطة إزالة المحتوى من على المنصات أو تعليق أي حسابات، فميتا هي وحدها التي لديها سلطة اتخاذ تلك الإجراءات.
وقد أعلن مارك زوكربيرج، الرئيس التنفيذي لميتا، عزم المجموعة على إنهاء برامج تدقيق الحقائق في الولايات المتحدة والاستعاضة عنها بما يسمى "ملاحظات مجتمعية" على غرار تلك التي اعتمدتها منصة إكس (تويتر سابقا)، والتي يسهم فيها المستخدمون بإضافة علامة أو وسم يصف محتوى ما بأنه غير دقيق أو مضلل. وقال زوكربيرج إنه توجد حاليا "رقابة أكثر مما ينبغي" على تلك المنصات. وأقر بأن ذلك سيقلل عدد "المحتويات السيئة" التي سترصدها المنصة، لكنه في الوقت ذاته سيقلص عدد "منشورات وحسابات الأشخاص الأبرياء التي نحجبها عن طريق الخطأ".

واعتبر كثير من المحللين أن الخطوة ذات دوافع سياسية تهدف إلى إرضاء ترامب، إذ جاءت قبل أيام من توليه فترة رئاسية ثانية، وأعقبت إجراءات أخرى لزوكربيرج كان من بينها رفع القيود الخاصة التي كانت مفروضة على حسابي ترامب على فيسبوك وإنستجرام الصيف الماضي، وتبرعه بمبلغ مليون دولار لصندوق حفل تنصيبه رئيسا للولايات المتحدة. وكان ترامب وحلفاؤه الجمهوريون قد انتقدوا تدقيق الحقائق على منصات ميتا قائلين إنه يشكل رقابة على أصوات تيار اليمين.
ورغم أنه لم تصدر عن ميتا إشارة واضحة بشأن ما إذا كانت الخطوة ستشمل دولا أخرى مستقبلا، إلا أن قرارها دفع كثيرين إلى التكهن بأنها ستعيد تقييم موقفها على المستوى العالمي.

مؤيدو برامج تدقيق الحقائق يرون أنها تخدم المجتمع، لأنها تخبر المستخدمين بما إذا كانت المعلومات التي يطلعون عليها موثوق بها وتستند إلى بحث دقيق، في مجالات كالطب والسياسة على سبيل المثال، وتساعد في الحد من انتشار خطابات الكراهية. أما المعارضون فيقولون إن هناك دائما وجهة نظر أخرى تستحق أن يسمعها الناس، وإن حجبها يعتبر شكلا من أشكال الرقابة.
كان من بين منتقدي قرار ميتا خبراء مكافحة المعلومات المضللة، وعلى رأسهم الشبكة الدولية لتدقيق الحقائق، وهي مبادرة تشكلت لتعزيز عمليات تقصي صحة الأخبار والمعلومات في الصحافة، وتقدم تدريبات ومساعدات وشهادات اعتماد لعشرات المنظمات التي تعمل في هذا المجال عبر أنحاء العالم، ولها مدونة مبادئ يلتزم بها أعضاؤها.

الشبكة أرسلت خطابا مفتوحا لزكربرج، قالت فيه إن ميتا لم تعط مدققي الحقائق مطلقا سلطة إزالة أي محتوى أو غلق أي حساب على منصاتها، وإن المجموعة تستثني الساسة والمرشحين السياسيين من تدقيق المعلومات "حتى عندما ينشرون أكاذيب بينة". وجاء في الخطاب أيضا أن مدققي المعلومات "يؤيدون بشدة حرية التعبير.. وحرية أن تقول إن شيئا ما ليس صحيحا تدخل أيضا ضمن حرية التعبير". وانتقد الخطاب كذلك "ملاحظات المجتمع" التي تعتمد ميتا تطبيقها، قائلا إن البحث أظهر أن العديد من تلك الملاحظات لا يتم عرضها على منصة إكس لأنها "تعتمد على الإجماع السياسي وليس على المعايير والأدلة التي تثبت الدقة".
الشبكة أعربت عن مخاوفها من أنه إذا أنهت ميتا عمليات تدقيق الحقائق على مستوى العالم، فإن ذلك "سيؤدي بشكل شبه مؤكد إلى إلحاق أضرار فعلية في العديد من الأماكن"، مشيرة إلى أن بعض البلدان التي تشملها عمليات التدقيق تعتبر "عرضة بشكل كبير لعدم الاستقرار السياسي، والتدخل في الانتخابات، والعنف الجماعي، وحتى الإبادة الجماعية".

2_2_11zon

يقول أليكسيوس مانتزارليس، مدير مبادرة "الأمن والثقة والأمان" بجامعة كورنل للتكنولوجيا، وكاتب دورية "فيكد أب" الرقمية التي تتناول المعلومات المضللة والأكاذيب على الفضاء الرقمي لـ بي بي سي عربي إن "المعلومات المضللة المستخدمة كسلاح تسبب بالفعل أضرارا في كل أنحاء العالم، كما كان واضحا خلال الاقتحام العنيف لمبنى الكابيتول في 6 يناير/كانون الثاني عام 2021. ومع ذلك، فإن تخلي المنصات عن مسؤوليتها في هذا الشأن يمثل تحديا كبيرا، خاصة في الدول التي قد لا يكون فيها صحافة حرة نشطة يمكن للمواطنين الاعتماد عليها في غياب بيئة معلومات صحية على الإنترنت".
أما البروفيسورة رينيه هوبز، أستاذة دراسات الاتصالات بجامعة رود أيلاند، وهي أيضا مؤسِسة ومديرة مختبر التثقيف الإعلامي "ميديا إيديوكيشن لاب"، فترى أن لا جهة يحق لها أن تقرر ما الذي يجب اعتباره "حقائق مؤكدة". وتضيف هوبز أن الناس بحاجة إلى "سوق معلومات موسعة بقدر الإمكان – تشمل الحقائق والخرافات والكتابات الساخرة والآراء، بل وحتى الأشياء الزائفة والقبيحة"، كي يتعلموا كيف يميزون ويغربلون أي محتوى.


هل تخسر الحقيقة معركتها الأخيرة على منصات التواصل؟
قراءة المقال بالكامل