هل تنهار قواعد النظام العالمي في ظل إدارة ترامب؟

منذ ٥ أيام ٢٠

يواجه التحالف السياسي والاقتصادي والقيمي الغربي العابر للأطلسي تصدّعاً غير مسبوق من داخله، بدأ يتراكم منذ سنوات، مع تصاعد نفوذ الأحزاب اليمينية والشعبوية داخل عدة بلدان أوروبية، ثم وصل اليوم إلى ذروته مع تولي دونالد ترامب رئاسة الولايات المتحدة، مستنداً لأغلبية شعبية، وفوز الجمهوريين بأغلبية في مجلسي النواب والشيوخ. بشكل واقعي، يمكن وصف النظام الدولي الموروث منذ ترتيبات ما بعد الحرب العالمية الثانية باعتباره نظاماً يعاني من خلل بنيوي، حيث يحمل في طياته خليطاً من مكونات القواعد الدولية والتعاون الدولي، في إطار مؤسّسات متعدّدة الأطراف من جهة، وسمات الفوضى وإدارة العلاقات الدولية عبر القوة والنفوذ من جهة أخرى. وقد اعتاد العالم معايشة هذا التناقض بين المكوّنين خلال حقبة الحرب الباردة، وما بعدها، فقد يتّجه النظام الدولي في أوقات باتجاه تعزيز سيادة القواعد والقانون على المستوى الدولي، ويتحوّل، في أوقات أخرى، صوب نموذج الفوضى العالمية وسيادة القوة، وتهميش القواعد والمؤسّسات الدولية. وقد اعتمد إحداث التوازن بين مكوني الفوضى والقواعد على توجهات الدول الكبرى بشكل خاص، وهيكل العلاقات والتحالفات في ما بينها، خاصة ما يمكن تسميته التحالف الغربي العابر للأطلسي الذي تشكل على أنقاض الحرب العالمية الثانية، بقيادة الولايات المتحدة.

ولكن هذا النظام الدولي المختلّ بالفعل يواجه تحدّياً من نوع جديد، يتمثل في توجّهات إدارة الرئيس ترامب، والتي كشفت عنها الأسابيع القلية الماضية، منذ توليه الفعلي الرئاسة. وبلا شك، تعزّز هذه الإدارة عبر خطاباتها وسياساتها المعلنة سمات الفوضى وتوظيف القوة في هذا النظام الدولي، بصرف النظر عن حسابات الحقّ والباطل، بل وتعيد ترتيب الدور العالمي للولايات المتحدة ورؤيتها إلى مصادر قوتها وتأثيرها الدولي. على المستوى السياسي، تتخلى الإدارة الأميركية عن التوافق الطويل الذي جمع الدول الغربية في مواجهة التحدّيات الجيوسياسية التي تمثلها قوى صاعدة مثل روسيا. وعلى المستويين الأمني والدفاعي، يبدو أن الإدارة الأميركية تتخلى عن معادلة الأمن والحماية التي كانت تساهم فيها الولايات المتحدة تاريخيا لحلفائها الغربيين، خاصة في سياق الدور القيادي الذي كانت تلعبه في ظل حلف شمال الأطلسي (الناتو)، الذي تأسس عام 1949 بالأساس لمواجهة التهديد السوفييتي خلال الحرب الباردة. وعلى المستوى الاقتصادي، يمثل فرض رسوم جمركية وإجراءات حمائية على التبادل التجاري مع دول، مثل كندا والمكسيك، وتوقع فرضها قريبا على الاتحاد الأوروبي، طعنة أخرى لفلسفة تحرير التجارة العالمية والعولمة الاقتصادية التي كان يروّجها التحالف الغربي في سنوات ما بعد الحرب الباردة. تعتمد إدارة ترامب على تغليب منطق الصفقة والمنافع المتبادلة في إدارة علاقاتها الثنائية، بصرف النظر عن المحدّدات الاستراتيجية الكلية للأمن العالمي وتوازن القوى العالمي الذي كان يحرّك استراتيجيات الأمني القومي الأميركي.

في الوقت نفسه، تعيد الإدارة الأميركية تعريف هوية الولايات المتحدة، ومساهمة ما تعرف بالقوة الناعمة في هذه الهوية. حيث مثلت القرارات التي أصدرها ترامب أخيراً في تجميد المساعدات الدولية الأميركية في مجالات التنمية ودعم الديمقراطية وحقوق الإنسان تعبيراً واضحاً عن التوجّهات المعادية لدى هذه الإدارة للتوجه الليبرالي الذي كانت تقوم عليه هذه البرامج، ورغبة الإدارة في إعادة تشكيل الجهاز البيروقراطي الأميركي على أسس جديده تخدم فقط رؤية ترامب الضيقة إلى العالم والمجتمع الأميركي.

مثلت برامج المساعدات الأميركية تحوّلاً نوعياً للسياسة الخارجية بدأ منذ الإدارة الديمقراطية لجيمي كارتر في نهاية السبعينيات

لقد مثلت برامج المساعدات الأميركية تحوّلاً نوعياً للسياسة الخارجية بدأ منذ إدارة جيمي كارتر الديمقراطية في نهاية السبعينيات. تأسّست الوقفية الوطنية للديمقراطية، وهي المؤسّسة الأشهر في هذا السياق، عام 1983 بدعم من الرئيس الجمهوري رونالد ريغان أداة لمواجهة الاتحاد السوفييتي، عبر دعم حركات المعارضة الديمقراطية في دول المعسكر الشرقي. بعد الحرب الباردة توسّع نشاطها ليشمل دولاً، مثل إيران، الصين، فنزويلا، وكوبا، ومنطقة الشرق الأوسط وشمال أفريقيا. وكان الدعم المالي لهذه الوقفية محصّلة توافق عبر عقود بين الحزبين الجمهوري والديمقراطي. وقد تواكب مع استهداف ترامب هذه البرامج، توجّه عدواني آخر ضد المؤسّسات متعدّدة الأطراف، سواء التي تعمل في سياق حقوق الإنسان أو حرية التجارة أو حماية البيئة والمناخ العالمي، فقد أعلنت الإدارة الأميركية عن انسحابها من أعمال مجلس حقوق الإنسان في الأمم المتحدة، وفرضت عقوباتٍ غير مسبوقة على أعضاء المحكمة الجنائية الدولية والمتعاونين معها بسبب تدخّل المحكمة القضائي في المحاسبة على الجرائم المرتكبة في الأراضي الفلسطينية المحتلة. وفي الوقت نفسه، ضربت عرض الحائط بكل مقرّرات الشرعية الدولية في تعاملها مع القضية الفلسطينية، والتهديد الصريح بتهجير سكان غزّة من القطاع من دون إمكانية عودتهم. وفي ذروة هذا الانقسام القيمي داخل الغرب، وجه نائب الرئيس الأميركي جيه دي فانس، في مؤتمر ميونخ للأمن لهذا العام، انتقادات لاذعه للديمقراطية الليبرالية التي تمارسها أوروبا، معبّراً عن توجّهٍ يرى في الديمقراطية أداه للتفويض الشعبي المطلق، من دون اعتبار لقيم الحرية الفردية وحماية الأقليات ومؤسّسات الديمقراطية ذاتها.

وقد جاءت هذه التحوّلات بمثابة جرس إنذار لأوروبا بضرورة تبنّي نهج جديد يضمن الاستقلالية السياسية والدفاعية للدول الأوروبية وحلفائها، والذي توّج، أخيراً، بإعلان رئيسة المفوضية الأوروبية عن حزمة جديدة من برامج التسليح، وإطلاق المملكة المتحدة ما يعرف "بتحالف الراغبين"، الذي يهدف إلى رفع القدرات الدفاعية والعسكرية الأوروبية لمواجهة الخطر الروسي، والتداعيات السياسية والأمنية للرؤية الدولية الأميركية الجديدة. يتوقّف إحداث توازن في النظام العالمي اليوم على مدى نجاح أوروبا في تعويض غياب الدور الأميركي عن هذا التحالف أو قدرة الدبلوماسية الفرنسية والبريطانية بشكل خاص على إقناع الإدارة الأميركية بتبنّي توجهاتٍ أكثر اعتدالاً ومرونةً تجنّب انهيار ما تبقّى من قواعد وتوازن في النظام الدولي.

قراءة المقال بالكامل