هل يصل إعلان أنقرة بإثيوبيا إلى البحر؟

منذ ٢ شهور ٥٣

في إشارة إلى الارتقاء بالعلاقات بين إثيوبيا والصومال إلى الأوضاع الطبيعية، زار الرئيس الصومالي، حسن شيخ محمود، أديس أبابا في 11 يناير/ كانون الثاني الجاري، قادماً إليها من أوغندا، وهي الزيارة الأولى بين البلدين، بعد اتفاق المصالحة بينهما في ديسمبر/ كانون الأوّل الماضي، الذي جرى بجهود ووساطة تركية، امتدّت عبر جولات تفاوض على مستوى وزراء الخارجية، بدأت بجولة أولى في يوليو/ تمّوز، وثانية في أغسطس/ آب 2024. وفي نهاية المطاف، نجحت أنقرة في تقريب وجهات النظر بين الدولتين، ونزع فتيل أزمة معقّدة كادت تشعل منطقة ملتهبة بالأساس، لذا حظيت المصالحة بارتياح كبير في الأوساط الرسمية والشعبية في البلدين، وفي عموم منطقة القرن الأفريقي، فهي خطوة إذا قدّر لها الاستمرار، من شأنها أن تساهم في تعزيز الاستقرار والأمن في المنطقة، وتقلّل من فرص نشوب صراعات جديدة مستقبلاً.
وقد عبّر الرئيس التركي، رجب طيب أردوغان، عن أمله في أن يكون هذا الاتفاق التاريخي الخطوة الأولى نحو بداية جديدة، مبنية على السلام والتعاون بين مقديشو وأديس أبابا، كما أردف، في إشارة غاية في الأهمية، أن الاتفاق سيضمن لإثيوبيا الوصول إلى البحر. ويشكّل هذا الوصول عقدة إثيوبيا الرئيسية، إذ تعود إليه جذور الصراع بينها وبين الصومال، وأكثر ما يثير قلق إثيوبيا دوماً هو سجن الجغرافيا الذي توجد فيه، فأهمية الوصول إلى منفذ بحري ظلّ حلماً في مخيّلة الشعب الإثيوبي ووجدانه. وفي هذا الاتجاه، قدّم رئيس وزراء إثيوبيا، أبي أحمد، خطابه الشهير في أكتوبر/ تشرين الثاني 2023 أمام برلمان بلاده، الذي ساق فيه أحقية بلاده في الوصول إلى البحر، معدّداً السياقات التاريخية والاقتصادية والديمغرافية والجيوسياسية التي تدعم موقف إثيوبيا في هذا الشأن، ومؤكّداً أن الحصول على منفذ بحري قضية حياة أو موت بالنسبة لبلاده الحبيسة، في إشارة إلى أنها ستحصل على هذا الحقّ بالقوة أو بغيرها، ولكنه تراجع، وأكد أن بلاده ستتبع الطرق السلمية لمعالجة هذا الملف، وقال إن أبناء وطنه الذين سيبلغ عددهم 150 مليوناً خلال أقل من عقد، لا يستطيعون العيش في سجن الجغرافيا، والنيل والبحر الأحمر هما الأساس لتطوير إثيوبيا أو فنائها.

أكثر ما يثير قلق إثيوبيا دوماً هو سجن الجغرافيا الذي توجد فيه، فأهمية الوصول إلى منفذ بحري ظلّ حلماً في مخيّلة الشعب الإثيوبي ووجدانه

وقد عرض أبي أحمد في مرافعته هذه أمام البرلمان على الدول الساحلية المجاورة خيار الحصول على نسبة تصل إلى 30% من مؤسّسات حيوية إثيوبية، كسدّ النهضة، والخطوط الجوية الإثيوبية، أو شركات الاتصالات الإثيوبية، مقابل تأمين منفذ سيادي على البحر لبلاده. وتماهياً مع هذه الرغبة، وفي خطوة مفاجئة، وقّع أبي أحمد، في يناير/ كانون الثاني 2024، مذكّرة تفاهم مع أرض الصومال غير المعترف بها دولياً، حصلت بموجبها أديس أبابا على موطئ قدم في البحر الأحمر، يضمن لإثيوبيا وصول قواتها البحرية للبحر، حيث سيؤجّر إقليم أرض الصومال شريطاً ساحلياً بطول 20 كيلومتراً 50 عاماً، تتمكن بموجبه إثيوبيا من إقامة ميناء وقاعدة عسكرية، مقابل اعتراف إثيوبيا بأرض الصومال دولة مستقلة. وبذا تكون أوّل دولة اعترفت بها، كما يوفّر الاتفاق لأرض الصومال نسبة تقدر بـ20% من الخطوط الجوية الإثيوبية التي تعدّ كبرى شركات الطيران في أفريقيا، والتي بلغت إيراداتها نحو 6.9 مليارات دولار خلال عام 2022.
أثار هذا الاتفاق ارتدادات جيوسياسية كثيرة، حيث بعث مخاوف دول جوار إثيوبيا الساحلية، جيبوتي والصومال وإريتريا، وضاعف التوترات في الإقليم المضطرب، وتواترت أخبار عن احتمالية نشوب صراع مسلح في القرن الأفريقي. فبهذا الاتفاق وإعلان أنقرة، حقّقت الدبلوماسية التركية اختراقاً في واحدة من أكثر القضايا تعقداً وتشابكاً في منطقة القرن الأفريقي في الوقت الراهن، إذ أوجد الاتفاق حلاً لمعضلة إثيوبيا الرئيسية. وبحسب نص الاتفاق الذي نشرته تركيا، اتّفق البلدان على العمل باتجاه إقرار إبرام اتفاقيات تجارية وثنائية، من شأنها أن تضمن لإثيوبيا وصولاً إلى البحر موثوقاً به وآمناً ومستداماً.
ويرى مراقبون أن زيارة الرئيس الصومالي أديس أبابا جاءت وفقاً لاتفاق أنقرة، الذي ينصّ أنّ على الدولتين المضي قدماً بحزم في أجواء التعاون، تماشياً مع هدف الرخاء المشترك، والتخلّي عن الخلافات في الرأي والقضايا الخلافية، وأن تدخلا العام الجديد 2025 بروح من التعاون والصداقة والرغبة في العمل معاً. وتحقيقاً لهذه الغاية، سيبدأ البلدان قبل نهاية فبراير/شباط 2025 محادثات فنية تستغرق على الأكثر أربعة أشهر، بهدف حلّ الخلافات بينهما من خلال الحوار، ويمكن أن تتدخل تركيا إذا تعثّرت مجريات الحوار.
وبرغم أهمية هذا الاتفاق لمنطقة القرن الأفريقي، فإنه يأتي في سياق صراعات معقّدة تتعلق بالسيادة والأزمات البنيوية التي تعاني منها دول المنطقة، فبجانب أزمة إثيوبيا والصومال، توجد الأزمة في السودان الممتدّة لأكثر من عام، والتي كادت تعصف بالدولة السودانية وسيادتها ووحدة أراضيها، وذلك بعد محاولة قائد مليشيا "الدعم السريع" الاستيلاء على السلطة بالقوّة.

تشكّل خرائط الحدود أحد محدّدات النزاع بين عدّة دول، تؤثر بشكل عام على الأمن الإقليمي لمنطقة القرن الأفريقي

كما تشكل أزمة سدّ النهضة بين إثيوبيا من جهة ومصر والسودان من جهة معضلة أمنية تهدّد الاستقرار، وتؤثر سلباً على العلاقات بين هذه الدول، ويمكن أن تشعل المنطقة وتؤثر على اتفاق أنقرة، إذا لم يجر تداركها والسعي إلى حلّها عبر الحوار، وتطمين شواغل القاهرة في حصتها من المياه، وتحقيق حلم إثيوبيا بالوصول إلى البحر.
على خلفية الخلافات، دائماً ما تصطفّ المحاور، فشكلت أزمتا السد والصومال معاً تحالفاً أو تقارباً بين مصر والصومال وإريتريا، والأخيرة تدهورت علاقاتها بإثيوبيا أخيراً بشكل ملحوظ، رغم دعم أسمرة قوات الحكومة الإثيوبية في نزاعها مع متمرّدي تيغراي بين عامي 2020-2022. ففي الأشهر القليلة الماضية، تعدّدت اللقاءات على كلّ المستويات والرحلات المكوكية بين البلدان الثلاث، فانعقدت في أسمرة في أكتوبر/ تشرين الأول المنصرم قمّة بين الرئيس عبد الفتاح السيسي والإريتري أسياسي أفورقي والصومالي حسن شيخ محمود. وأكّد بيان مشترك عقب القمة للرئيسين المصري والصومالي، تعزيز التعاون، من أجل تمكين الجيش الفيدرالي الصومالي الوطني من التصدّي للإرهاب بكلّ صوره وحماية حدوده البرّية والبحرية، وقد سبقها بنحو ثلاثة أسابيع مباحثات أجراها وزير الخارجية ورئيس المخابرات العامة المصريان مع الرئيس أفورقي، وشملت وفق بيان وزارة الخارجية المصرية، تطوّرات الأوضاع في البحر الأحمر والقرن الأفريقي.
ولتأكيد تعزيز علاقاتهما، وقّعت مصر والصومال اتفاقية أمنية في 14 أغسطس/ آب 2024، حيث سلّمت مصر الصومال شحنة كبيرة من الأسلحة شملت مدافع مضادّة للطائرات ومدفعية، كجزء من الاتفاق الأمني بين البلدين، وهو ما أثار انتقاداتٍ من إثيوبيا. وبطبيعة الحال، إريتريا تدعم الصومال في شواغله المتمثلة في الحفاظ على سيادة (وسلامة) أراضيه واستقلاله ووحدته.
ومن الملاحظات الجديرة بالاهتمام في توقيت زيارة الرئيس شيخ محمود إلى إثيوبيا في يناير/ كانون الثاني الجاري، التأم في القاهرة اجتماع وزراء خارجية مصر والصومال وإريتريا، تنفيذاً لمخرجات قمّة الرؤساء في أسمرا، لتعزيز الأمن في منطقة القرن الأفريقي والبحر الأحمر، وخرج اجتماع الوزراء برسائل عديدة، أهمها رسالة في بريد إثيوبيا، وهي أن أمن البحر الأحمر مسألة مهمة ومشتركة، ومرهونة بإرادة الدول المشاطئة فقط للبحر الأحمر، ولا يمكن القبول بوجود أي دولة غير مشاطئة للبحر الأحمر، سواء كان وجوداً عسكرياً أو بحرياً أو خلافه. وقد تكون هذه رسالة مزعجة إلى إثيوبيا، لكنه "الكرت" الذي تمتلكه القاهرة للضغط من أجل تحقيق اختراق في ملف سد النهضة. وفي الاتجاه نفسه، يرى محللون أن زيارة وزير الخارجية المصري، بدر عبد المعطي، أخيراً، بورسودان من ضمن أهم ملفاتها في المناقشة مع الجانب السوداني ملف سد النهضة. وقضية السد خلافية ومحورية في قضايا المنطقة النزاعية وتتطلّب حلاً عاجلاً. كما تشكّل خرائط الحدود أحد محدّدات النزاع بين عدّة دول، وتؤثر بشكل عام على الأمن الإقليمي لمنطقة القرن الأفريقي، وعلى أمن ممرّات الطاقة والتجارة العالمية، عبر باب المندب، كل هذه الملفات تتطلّب معالجات تخاطب جذورها، فعند انفجارها ستشكّل عقبات تعترض إثيوبيا من الوصول إلى البحر.
واقع تجربة وساطة أنقرة، والنجاح الذي حققته دبلوماسيتها في هذه الأزمة، قد يفرضان عليها مجدّداً الانخراط في جهود التسوية في صراعات المنطقة، من خلال دبلوماسية الوساطة، والدبلوماسية الوقائية التي تستند إليها في مقاربتها لحل الصراع والاستقرار والتعاون في منطقة القرن الأفريقي، فنجاحها في انتزاع فتيل النزاع بين مقديشو وأديس أبابا لم يكن مصادفة، إنما يتوافق مع رؤيتها الاستراتيجية لسياستها الخارجية المستندة إلى التعاون والتنمية، وسياسة تصفير المشكلات التي انتهجتها ركيزة في استراتيجيتها الخارجية قبل أن تصطدم بأحداث "الربيع العربي"، لكنها استدركت، أخيراً، أهمية هذه السياسة في ترتيب العلاقات، والتموضع الذي تريده في العالم، فاتبعت نهج العودة إلى سياسة تصفير المشكلات منذ عام 2021، واتضح ذلك جلياً في منتدى أنطاليا الدبلوماسي لعام 2024 الذي حمل ملامح مسار السياسة الخارجية التركية، فقد تضمّن تصفير المشكلات على المستويين الإقليمي والدولي. واتساقاً مع هذه الرؤية وما جرى طرحه بمناسبة الذكرى الـ500 لتأسيس وزارة الخارجية التركية في 2023، ترى تركيا نفسها يجب أن تكون "قوية على الأرض وقوية على الطاولة".
ومن جهة أخرى، اكتسب مفهوم "العالم التركي" أهمية متزايدة في حركتها العالمية، فبحسب تصوّر أنقرة له، فهو يمتد بين آسيا الوسطى وجنوب القوقاز. ووفقاً لهذه الرؤية الاستراتيجية، تتسق تدخلاتها في القضايا على المستويين، الإقليمي والعالمي، فمن الشواهد على اهتمام تركيا على مستوى الإقليم العملية الأخيرة في سورية، ومن قبلها تدخلها في الأزمة الروسية الأوكرانية، وغيرها من المناطق التي ترى تركيا أنها تتطلّب تدخلاً فاعلاً.
وفي سياق متصل بالأزمة المتفاقمة في السودان، قدّم الرئيس أردوغان في 11 ديسمبر/ كانون 2024 مبادرة للرئيس عبد الفتاح البرهان للتوسّط بين السودان والإمارات لإحلال الأمن والسلام في السودان. ووافق السودان على المبادرة من واقع العلاقات المتميّزة التي تربط البلدين، وثقته في حياد الوساطة التركية، وأهمية أن ينعم الشعب السوداني بالاستقرار وعودة الحياة إلى طبيعتها في البلاد.

من شأن مبدأ قبول إثيوبيا بوساطة أنقرة في ملف الصومال أن يجعلها تقبل أيضاً الوساطة التركية في ملف سد النهضة، إذا ما طرحتها تركيا

وفيما يتعلّق بسدّ النهضة الإثيوبي، فنجاح أنقرة وسيطاً في نزاعات المنطقة قد يدفعها إلى بحث إنهاء هذا الملف أيضاً، فمن شأن مبدأ قبول إثيوبيا بوساطة أنقرة في ملف الصومال أن يجعلها تقبل أيضاً الوساطة التركية فيه، إذا ما طرحتها تركيا. ومؤكّدٌ أن السودان سيرحب بها من واقع موافقته على قبول مبادرة أردوغان لحلّ المشكلة السودانية الإماراتية. ومن جانب مصر، فهي لا تختلف عن السودان وإثيوبيا في التعامل مع تركيا، إذا ما طرحت الأخيرة مبادرة لتسوية الصراع حول السد، خصوصاً أن الاتفاق الحالي قد عزّز الالتزام الدولي بالسيادة الوطنية، والتراجع عن فرض سياسة الأمر الواقع والتصريحات الأحادية وهذا ما تطلبه مصر. وهناك من يرى أن اتفاق الصومال وإثيوبيا قد جرى بنوع من التفاهمات المسبقة بين مصر وتركيا والصومال، وعلى خلفية العلاقة المتنامية بين القاهرة وأنقرة، استضافت القاهرة في 13 نوفمبر/ تشرين الثاني 2024 الجولة الثانية من المشاورات السياسية بين مصر وتركيا بشأن أفريقيا. واتفق الجانبان على تعزيز التعاون، من خلال أطر ومسارات متعدّدة، لتحقيق أهدافهما المشتركة في القرن الأفريقي والبحر الأحمر، وفق بيان وزارة الخارجية المصرية. وفي هذا الاتجاه، صرّح خبراء بأن مصر يهمّها الاستقرار في المنطقة، بشرط ألا يتعارض مع مصالحها، وأنّ أي اتفاق يجب أن يراعي مصالحها الوطنية.
ومع استمرار جهود الوساطة التركية في المنطقة، يبقى الأمل معقوداً على إمكانية تجاوز الخلافات التاريخية، وبناء علاقات تعاون مثمرة بين دول المنطقة من جانب، وتحقيق مصالح تركيا الاستراتيجية من ناحية أخرى في هذه المنطقة المتميّزة بحساسية جغرافيتها. ولضمان فاعلية دبلوماسية الوساطة التركية في منطقة القرن الأفريقي، على أنقرة التفاهم والتنسيق مع القوى الكبرى والقوى الفاعلة والمنخرطة في النزاعات، فالمنطقة بؤرة تتقاطع فيها المصالح الجيواستراتيجية، وتتسارع فيها التحولات الجيوسياسية، لذلك تتطلب جهوداً دبلوماسية جماعية من الإقليم ومن الدول المنخرطة والمتفاعلة فيه من خارج الإقليم.

قراءة المقال بالكامل