خلال فترة الحرب الباردة خاضت الولايات المتحدة حرباص أيديولوجية ضد الاتحاد السوفييتي في محاولة لكسب قلوب وعقول دول العالم، فكان صراعاً غير متكافئ إلى حد كبير من حيث الجاذبية الشعبية، إذ امتلكت الولايات المتحدة أفلام هوليوود والأغاني الرائعة، وسلاسل الأطعمة السريعة، مثل ماكدونالدز وكنتاكي وبيتزا هت، كما الديمقراطية ووعودها شديدة الجاذبية، بينما كان للاتحاد السوفييتي بريق خافت، لا يتجاوز موسيقى شوستاكوفيتش وتشايكوفسكي، وباليه البولشوي، وأفلام أندريه تاركوفسكي، ومؤلفات لينين، ثم في فترة لاحقة لعبة الفيديو تتريس.
وبالتزامن، قدم البلدان أشكالاً مختلفة من المساعدات للدول الأخرى، بما في ذلك الإغاثة في حالات الكوارث، والبعثات الطبية الإنسانية، والتعاون العلمي، والقروض المالية. وامتلكت الولايات المتحدة اليد العليا في هذا المجال أيضاً، حيث كان الاقتصاد الأميركي أكبر كثيراً من نظيره السوفييتي. وبعد انتهاء الحرب الباردة، وتفردها بقيادة العالم، استمرت الولايات المتحدة في الترويج لما سمّته "القوة الناعمة"، أي قوة الأفكار والثقافة، إلى جانب قوتها العسكرية الهائلة. وظلت هذه القوة الناعمة وسيلة رئيسية للتأثير الأميركي، سواء كان ذلك للأفضل أو للأسوأ.
وفي عام 1961، أنشأت الولايات المتحدة الوكالة الأميركية للتنمية الدولية (USAID)، باعتبارها جزءاً من جهود تعزيز نفوذها ومكافحة انتشار الشيوعية، لتصبح بعد فترة وجيزة من أبرز الجهات المانحة التي تساهم في تعزيز التنمية الاقتصادية والاجتماعية في الدول النامية. ومنذ تأسيسها، عملت الوكالة على تنفيذ برامج ومشروعات متنوعة تهدف إلى تحسين مستويات المعيشة، وتعزيز البنية التحتية، ودعم القطاعات الحيوية في هذه الدول.
وعلى الرغم من أن أكثر من نصف أموال الوكالة تذهب إلى المساعدات الإنسانية (21.7%)، والصحة (22.3%)، والحوكمة (3.2%)، والتعليم والخدمات الاجتماعية (2%)، والبيئة (1.9%)، يقول مركز الأبحاث FPIF، التابع لمعهد الدراسات السياسية الأميركي، إن هناك جانباً مظلماً لهذه القوة الناعمة الأميركية، حيث يتم في كثير من الأحيان تسييس المساعدات الخارجية بشكل كبير، وغالباً ما تُوزع بناءً على اعتبارات سياسية أكثر من الاحتياجات الفعلية.
وعلاوة على ذلك، يتم الاستيلاء على هذه المساعدات في بعض الأحيان من قبل مسؤولين فاسدين، ممن يعملون على إثراء أنفسهم أو مكافأة شبكاتهم الموالية، بحسب مركز الأبحاث الأميركي، رغم أن الولايات المتحدة نفسها استخدمت برامجها للمساعدات في استهداف الفساد والجريمة المنظمة.
ومن ناحية أخرى، تشترط الولايات المتحدة في كثير من الأحيان استخدام أموال المساعدات في شراء سلع وخدمات أميركية، ما يعني أن الحكومة الأميركية تقدم دعمًا غير مباشر لشركاتها. وكانت الوكالة الأميركية للتنمية الدولية (USAID)، التي علقت إدارة الرئيس الأميركي دونالد ترامب عملياتها، وقلصت عدد موظفيها من 14 ألفاً إلى أقل من 300، فخورة جداً بهذه الحقيقة لدرجة أنها أعلنت ذات مرة على موقعها الإلكتروني أن "المستفيد الرئيسي من برامج المساعدات الخارجية الأميركية كان دائماً الولايات المتحدة، إذ إنّ ما يقرب من 80% من عقود ومنح الوكالة الأميركية للتنمية الدولية تذهب مباشرة إلى الشركات الأميركية".
وعلى الرغم من المشاكل المرتبطة بتوزيع هذه المساعدات، إلا أنه لا يمكن التغافل عن حقيقة أن الوكالة تموّل العديد من المشروعات الضرورية حول العالم. وقد سلط تقرير لمجلة تايم Time الضوء على الفوضى التي تسبب بها قرار ترامب بالفعل، حيث اضطرت العائلات الفلسطينية إلى العودة لمساكنها في الأحياء المدمرة في غزة دون إمكانية الوصول إلى المياه النظيفة أو المأوى الآدمي أو المؤن، وتوقفت التمويلات المخصصة للمعلمين والمستلزمات التعليمية في أوغندا، كما أغلقت المدارس المخصصة للفتيات من الصف الرابع إلى السادس في أفغانستان، وتراكمت أطنان من البذور في مستودعات في هايتي بدلاً من توزيعها على المزارعين، وأُغلقت عيادات صحة الأم وتنظيم الأسرة في مالاوي.
أما في بنغلادش، فتم خفض المساعدات الغذائية للاجئين إلى النصف خلال الشهر الجاري، وستتوقف تماماً في إبريل/ نيسان المقبل. ولم تقتصر العواقب على توفير الخدمات الأساسية، بل أثرت أيضاً في جهود تطوير لقاح جديد لمرض الإيدز في أفريقيا، والتجارب السريرية للسيطرة على مرض السل على مستوى العالم. وتوقفت أيضاً الأبحاث التي تمولها الوكالة الأميركية للتنمية الدولية في الجامعات الأميركية حول الابتكار الزراعي، والحوكمة والديمقراطية، وأداء التعليم.
وانتشرت الكثير من المعلومات المضللة من قبل إدارة ترامب حول الوكالة الأميركية للمساعدات الخارجية، حيث عددت الإدارة، كذباً، المشروعات السخيفة التي يتم استخدام أموال الوكالة فيها، كما زعمت أن قطع التمويلات سيوفر للولايات المتحدة مبالغ طائلة، رغم أن المساعدات الخارجية لا تمثل سوى 1% من الميزانية الفيدرالية، ومعظم هذه الأموال يتم إنفاقها داخل الولايات المتحدة أو على شراء السلع والخدمات الأميركية.
وزعم أنصار ترامب أنّ أموال الوكالة تُستخدم في تمويل رحلات المشاهير إلى الخارج، وهو ادعاء غير صحيح. لكن منظمات المجتمع المدني الأميركية تقول إن جزءاً كبيراً من المساعدات الخارجية الأميركية حالياً ينبع من دافع مختلف تماماً عن سبب نشأتها في الستينيات، وهو رغبة حقيقية منها في التعاون مع الجماعات حول العالم لتحسين قطاعات الصحة، والتعليم، والزراعة، والسياسة.
أثار قرار ترامب بتعليق أعمال الوكالة انتقادات من قبل منظمات إنسانية ودولية، بسبب ما كانت تدعمه الوكالة من قضايا حيوية، مثل مكافحة الفقر، وتحسين الصحة العامة، ودعم التعليم، ونظراً لأن تلك البرامج لم تكتف بدعم القيم الأميركية، بل كانت أيضاً وسيلة لبناء علاقات إيجابية مع الشعوب والحكومات في الدول المستفيدة. وبينما استهدف القرار، كما قال ترامب، تعزيز الأولويات الداخلية، فقد أدى إلى تهديد النفوذ الأميركي على الساحة الدولية، وأثار تساؤلات حول التزام الولايات المتحدة بدورها التقليدي في مجال المساعدات الإنسانية والتنموية، الأمر الذي دفع العديد من وسائل الإعلام، ومنها صحيفة فاينانشال تايمز البريطانية، للتساؤل بشأن ما إذا كان ترامب قد أنهى بالفعل القوة الناعمة الأميركية!
