وادي السيليكون... موسم الهجرة إلى اليمين

منذ ٣ شهور ٤٩

تثير توجهات وادي السيليكون السياسية جدلاً متزايدًا، حيث يتجه قطاع التكنولوجيا نحو اليمين المحافظ، ما يعيد إلى الأذهان حقبة التسعينيات، حين برزت مخاوف من "الفاشية التقنية". اليوم، مع دخول قطاع التكنولوجيا مرحلة جديدة في ظل إدارة الرئيس الأميركي دونالد ترامب الثانية، يبدو أن الاتجاه اليميني يزداد تجذرًا، ما يطرح تساؤلات حول مستقبل القطاع ودوره في تشكيل التوجهات السياسية العالمية.

صعود الفكر المحافظ في وادي السيليكون

خلال الفترة الأخيرة، زادت التصريحات المناهضة للتنوع والشمولية في الشركات التكنولوجية الكبرى. أعلن الرئيس التنفيذي لشركة "ميتا"، مارك زوكربيرغ، عن إنهاء برامج التنوع والمساواة والشمول، كما أعاد إيلون ماسك تشكيل "تويتر" ليصبح "إكس"، في خطوة يُنظر إليها ردَّ فعل على ما وصفه بـ"فيروس العقل المستيقظ"، وهو مصطلح جديد للصوابية السياسية. من جهته، اتجه رجل الأعمال بيتر ثيل إلى دعم سياسيين محافظين يمينيين، كما عززت شركات رأس المال المغامر دعمها لشخصيات تدافع عن سياسات السوق الحرة والتقليل من اللوائح الحكومية. بات هذا التحول جليًا في سياسات التوظيف، والاستثمارات التي تركز بشكل أكبر على رواد الأعمال البيض والذكور، بحسب ما تشير إليه صحيفة ذا غادريان البريطانية.

الجذور الرجعية

على الرغم من الصورة الليبرالية التي ارتبطت بوادي السيليكون، فإن أساساته ظلت تحمل توجهات محافظة منذ نشأته. في التسعينيات، حذّر نقاد من النزعة اليمينية المتزايدة داخل القطاع، حيث تحدث الصحافي مايكل مالون عن خطر "الفاشية التقنية"، بينما قارنت الكاتبة بولينا بورسووك تقديس القوة الذكورية في التكنولوجيا بما كان سائداً في ثلاثينيات القرن الماضي. وبرز الكاتب وأحد أشهر وجوه سيليكون فالي في التسعينيات، جورج غيلدر، بوصفه أحد الأصوات المؤثرة في هذا السياق، إذ روّج لفكرة أن ريادة الأعمال تمثل تعبيرًا مثاليًا عن الذكورة، معتبراً أن الرجال أكثر قدرةً بيولوجيًا واجتماعيًا على قيادة الأعمال. وقد انعكس هذا التوجه في السياسات الاقتصادية خلال عهد الرئيس الأميركي السابق رونالد ريغان، حيث لعبت أفكار غيلدر دورًا في تبرير اقتصاديات التدرج وتقليص برامج الرفاهية الاجتماعية.

صدام مع التعددية والتنوع

تواصلت الحملة ضد الصوابية السياسية خلال التسعينيات، فظهرت مقالات في منشورات متخصصة تسخر من فكرة تعزيز التنوع في القطاع التكنولوجي. على سبيل المثال، نشرت مجلة أبسايد عام 1990 مقالًا بعنوان "هل أصبح وادي السيليكون أنثويًا؟"، انتقدت فيه ما وصفته بـ"الذكورة المفرطة الحساسية". كما واجهت الشخصيات المطالبة بالتنوع هجومًا شرسًا. ففي 1996، رد المدير التنفيذي لشركة سايبريس سيميكوندكتور، تي. جي. رودجرز، بقسوة على راهبة دعت لتعزيز تمثيل النساء والأقليات في مجالس إدارات الشركات، متهمًا إياها بـ"الركوب على موجة الصواب السياسي". وفي 1999، تصدّى رودجرز لمبادرة جيسي جاكسون، التي هدفت إلى زيادة تمثيل الأميركيين من أصول أفريقية ولاتينية في قطاع التكنولوجيا، واصفًا جاكسون بـ"النورس الذي يأتي ليفسد كل شيء ثم يغادر".

لم يكن رودجرز وحده في هذا الاتجاه، إذ برزت شخصيات مثل مارك أندريسن، الذي روج للأيديولوجية التي تربط بين النجاح الاقتصادي والفكر المحافظ، رافضًا أي حديث عن تعزيز المساواة في بيئة العمل. انعكست هذه الأفكار في استراتيجيات الشركات التكنولوجية، حيث باتت التعيينات تركز على الشخصيات المتماشية مع هذا الفكر، بينما يتم تهميش الأصوات المعارضة.

المال والسياسة: تحالف جديد

في السنوات الأخيرة، لعب "رأس المال المغامر" دورًا بارزًا في توجيه السياسة الأميركية نحو اليمين، من خلال تمويل حملات سياسية تعارض التنظيمات الحكومية التي تحد من نفوذ الشركات الكبرى. العديد من رواد الأعمال التكنولوجيين باتوا يدعمون سياسات تروج للأسواق الحرة، والتقليل من تدخل الحكومة، وهو ما ينعكس على القرارات الاقتصادية التي تتخذها الشركات الكبرى في القطاع.

يعد إيلون ماسك أحد أبرز الوجوه في هذا التحول، إذ لم يكتفِ بإعادة هيكلة "تويتر"، بل بات يستخدم منصته "إكس" لدعم شخصيات يمينية محافظة، متيحًا لهم حرية التعبير بعيدًا عن قيود الصوابية السياسية التي تفرضها المنصات الأخرى. وقد وسّع "تورّطه" السياسي خارج الولايات المتحدة، إلى ألمانيا. إذ ظهر الملياردير الأميركي بشكل مفاجئ خلال تجمع انتخابي لحملة حزب البديل من أجل ألمانيا في هاله في شرق ألمانيا الأسبوع الماضي، متحدثاً علناً لدعم الحزب اليميني المتطرف للمرة الثانية في أسبوعين. وفي كلمة ألقاها أمام قاعة تضم 4500 شخص إلى جانب زعيمة الحزب أليس فايدل، تحدث ماسك مباشرة عبر رابط فيديو عن الحفاظ على الثقافة الألمانية وحماية الشعب الألماني. وقال ماسك: "من الجيد أن نفخر بالثقافة الألمانية والقيم الألمانية، وألا نفقد ذلك في نوع من التعددية الثقافية التي تخفف من كل شيء". وكان ماسك قد اثار ضجة خلال حفل تنصيب الرئيس الأميركي دونالد ترامب بعد أن وجه إشارة بيده شبَهها البعض على الانترنت بتحية النازية.

كذلك، أعاد مارك زوكربيرغ من جهته، النظر في سياسات المحتوى الخاصة بـ"ميتا"، متيحًا مساحات أوسع للنقاشات التي كانت تُعتبر سابقًا مثيرة للجدل.

ما بعد الأزمة: صعود جيل جديد من المحافظين

رغم أن التغييرات التي حصلت مطلع الألفية الجديدة أدّت إلى تراجع نفوذ بعض الشخصيات المحافظة، إلا أن جيلًا جديدًا من رواد الأعمال، مثل إيلون ماسك وبيتر ثيل، استلهموا دروس الماضي وعملوا على تعزيز رؤية يمينية داخل وادي السيليكون. ومع توسع النفوذ الاقتصادي لهذه الشخصيات، بات تأثيرها السياسي يزداد بشكل واضح، إذ أصبح دعمها للأحزاب والتيارات المحافظة أكثر علانيةً. تشير التحليلات إلى أن وادي السيليكون لم يعد مجرد مركز للابتكار التكنولوجي، بل أصبح لاعبًا سياسيًا فاعلًا، قادرًا على التأثير في الانتخابات والسياسات العامة من خلال استخدام المنصات الرقمية والترويج لأيديولوجيات محافظة جديدة.

مستقبل التكنولوجيا تحت هيمنة اليمين

يبدو أن التحول نحو اليمين في وادي السيليكون ليس مجرد ظاهرة مؤقتة، بل هو اتجاه آخذ في الترسخ. فمع استمرار الشركات الكبرى في توسيع نفوذها، وتعزيز العلاقات مع صناع القرار السياسي، من المتوقع أن تتعزز سياسات أكثر محافظة في قطاع التكنولوجيا. يبقى السؤال: هل سيؤدي هذا التحول إلى تقييد الابتكار وانغلاق السوق على فئة معينة، أم أنه سيمثل مرحلة جديدة من التكيف مع التغيرات السياسية والاقتصادية؟ في كل الأحوال، فإن وادي السيليكون لم يعد كما كان في بداياته، بل أصبح أحد أبرز مراكز القوة في السياسة العالمية.

قراءة المقال بالكامل