مع إقرار كثير من الصحف العالمية والنشرات الدولية أن الأردن يلعب دوراً أساسياً في السياسات المتعلقة بالشرق الأوسط، خاصة القضية الفلسطينية، إلا أن الأردن المهذّب في مقارباته، والساعي لتجنب الاحتكاك مع غيره، لا يأخذ المبادرات الفعالة التي تصبّ في مصلحته العليا، والأهم من ذلك، التي تتناسق مع مصالح المنطقة بأسرها. ولو غادرنا دائرة الحياء، وأبرزنا هذا الدور الأردني، لرأينا أن الأردن قد تحمل العبء النسبي الأكبر في كل النكبات والمصاعب والتحديات التي تعرضت لها المنطقة، خاصة في حروبها مع إسرائيل، أو في الاحتراب العربي الداخلي في سورية ولبنان والعراق واليمن والسودان وليبيا.
ويعيش في الأردن الآن أكثر من ثلاثة ملايين لاجئ عربي أو أكثر. والأردن الذي يعاني من هشاشة في الموارد الطبيعية من الماء والطاقة والمعادن الأخرى (باستثناء الفوسفات والبوتاس والبرومين والمغنيسيوم وبعض النحاس والكائولين والرمل الزجاجي)، إلا أنها لا توفر له عنصر السيولة النقدية التي يحتاجها ويعمل جاهداً بكل السبل للحفاظ عليها.
الآن، وقد تناقلت وكالات الأنباء الخبر عن موافقة حركة حماس في غزة على تشكيل لجنة لإدارة القطاع تتمتع بالمقدرات البيروقراطية والفنية لإعادة بنائها، ووافقت الحكومة الإسرائيلية يوم الأحد الماضي على إرسال وفد من جانبها إلى مفاوضات غزة في مصر، فإن بوادر الحلحلة في المواقف بدأت تظهر. ولذلك صار ضرورياً جداً أن يبدأ الأردن في التحرك ليكون له دور مهم في إدارة مشروع إعادة بناء غزة. وللأردن، مهما قلنا في الأمر، المواقف التي تعزز هذا الدور وتعطيه أهمية خاصة،
أول هذه المواقف أن في الأردن عشرات الآلاف من أهل غزة الذين يعيشون فيه، وبنوا لأنفسهم مؤسسات ناجحة، وشركات منظمة وقادرة على المساهمة في ذلك. والأمثلة كثيرة، ولا حاجة للخوض فيها.
والأمر الثاني هو أن الطب الأردني قد ساهم مساهمة كبيرة منذ احتلال غزة من إسرائيل عام 1967، ومنذ انسحاب القوات الإسرائيلية وفرض الحصار الاقتصادي عليها، وأخيراً وليس آخراً منذ انفجار الحرب التي بدأت يوم السابع من أكتوبر/ تشرين الأول 2023، والأردن لم يتوقف عن إرسال البعثات الطبية، وتزويد الحاجات الإنسانية المرسلة منه أو المتبرع بها من جهاتٍ ثالثة، أو عن طريق زيادة المستشفيات الميدانية، وذلك أنجز كله جواً وبراً، وها هو الأردن يستقبل المزيد من حالات البتر والأمراض المستعصية خاصة عند الأطفال من أجل إنقاذ جيل جديد.
ولكن غزة بالنسبة إلى الأردن ليست مجرد جار حميم، بل هي غزة هاشم الجد الأعظم لبني هاشم المدفون على تربتها الطاهرة، ومنحها من دمه الهاشمي وسبطِهِ النبي محمد عليه السلام من عبد الله وسلالته حتى اليوم تلك القدسية والتقدير. ومن غير المعقول أن يكون آل هاشم الأوصياء على الأماكن المقدسة الإسلامية والمسيحية في القدس الشريف من الصخرة المشرفة إلى المسجد الأقصى إلى الأوقاف إلى المدارس العمرية إلى التكيات الأموية والعباسية والعثمانية، ولا يكون الهاشميون الداعمون هم الأوصياء على كل الأماكن الهاشمية في غزة؟
ولذلك، فإنني أهيب بأهلي وإخواني من أهالي غزة الكرام، أن يطالبوا آل هاشم، وحكام الأردن، بأن يتقبلوا هذا الدور أسوة بما جرى في القدس، ولكن الأمر في حد ذاته يجب ألّا يتوقف هنا، لأنه من غير المعقول أن يترك الباب مفتوحاً على مصراعيه للمتطرفين من اليهود بأن يعيثوا فساداً في الحرم النبوي بمدينة الخليل، ونحن بحاجة ماسة إلى أن يطالب كل أهل الخليل الشرفاء، الذين يشكل الحراس والمدافعون عن الأماكن المقدسة في القدس والخليل غالبيتهم الساحقة، أن يكون لهم رأي في دعوة بني هاشم الكرام لكي يكونوا الأوصياء على الحرم الإبراهيمي في الخليل، وكل ما يتعلّق به من أوقاف، ويجب أن يعلم الجميع الحقائق التالية المهمة.
أول تلك الحقائق أن أهل فلسطين قد منحوا الشريف الحسين بن علي حق الوصاية الهاشمية على الأماكن المقدسة الإسلامية والمسيحية في القدس عام 1924، حين تبرع الشريف الحسين أيامها بمبالغ لإصلاح قبة الصخرة المشرفة وساحات الأقصى، وإعادة فرش السجاد في باحاته، ولكن تلك الوصاية لم تأتِ من فراغ. ومَن منا ينسى حكاية الأرك بيشوب صفرونيوس الذي منح الخليفة القرشي عمر بن الخطاب أمانة الدفاع عن القدس والأماكن المقدسة المسيحية فيها في العام 639 ميلادية، وسميت بالإنجليزية (The Pact of Umar)، وما تزال نسخة من تلك العهدة موجودة لدى الهاشميين. ومنذ عام 1924 تولى الشريف الحسين ومن بعده أبناؤه شرف تلك الوصاية بكل أمانة، فهم الذين يدفعون رواتب العاملين في أوقاف القدس، ولحراس الأماكن المقدسة فيها، ويقومون بالإصلاحات البنيوية وتغيير السجاد وإعمار ما تآكل من البنية بكل سماحة وفخر.
وثانيها أن الأردن يتمتع بسمعة دولية مهمة جداً في التعامل مع الإثنيات الدينية والعرقية، ولا شكّ مثلاً أن الأردن عامل كل أعمدة الأمة من عرب وأكراد وأتراك وفرس بالاحترام والتقدير، وقدم إبّان الثورة العربية الكبرى الأدلة على ذلك خاصة بعد وصول الأمير عبدالله بن الحسين (الملك المؤسس) إلى مدينة معان، وقد عين أول رئيس لوزراء الأردن المرحوم "رشيد طليع" درزياً، وكان هنالك السوري واللبناني والفلسطيني والأردني، لذلك لم تكن الحلول محلية كما يريد الإسرائيليون حالياً، بل أخذوا من تداخل الحدود والتأكيد على أن الأعمدة الأربعة هي المكونات الأساسية للدولة الواحدة، التي تتمتع بضم الجميع تحت إطارها.
وثالثها أن آل هاشم لهم تاريخ حافل بالتعامل الإنساني مع المعارضة، ويكفي ما ذكره "بات أوكونيل" في كتابه الموسوم "مستشار الملك" أو "The king's Council"، الذي تحدث فيه عن عفو الملك الحسين عن المتهمين من كبار الضباط والمسؤولين الذين سعوا لإحداث انقلاب عام 1957، وقد أوفى الراحل الحسين بوعده للمتهمين بالعفو عنهم إن اعترفوا، وقد تولى بعضهم لاحقاً مناصب حساسة في الدولة الأردنية.
ومن هنا، فإن قيام أهل الخليل ومعهم كثير من أحرار فلسطين بطلب الوصاية الملكية الهاشمية على الأماكن المقدسة في غزة والخليل، لن يغيّر من صفة السيادة وأن هذه الأماكن هي تحت السيادة الفلسطينية، ولكنّها أيضاً تحت الوصاية الهاشمية من حيث الرعاية والإصلاح والدفاع عنها، ولذلك تضافرت ضمن المنظور الأردني الجهود الأردنية الهاشمية مع الجهود الفلسطينية لضمان حقوق العرب والمسلمين في الأماكن المقدسة.
وإذا أُعطيت الوصاية الهاشمية في غزة والخليل، فإن هذا سيجعل الطريق سالكاً بين الخليل وغزة، وهما مدينتان متصلتان تاريخياً بقرون قبل إنشاء إسرائيل عام 1948، وحتى في عام 1948 لجأ كثير من أهل غزة الذين احتلت أراضيهم مثل قرية المغار وغيرها إلى حلحول والخليل في قضاء الخليل. وبهذا يستطيع الفلسطينيون والعرب إن حصلوا على الوصاية الملكية الهاشمية أن يضمنوا حماية أفضل لهذه الأماكن، وتبقى الأمور كذلك حتى تقرّر دولة فلسطين المستقلة والأردن معاً أن التغيير صار مطلوباً.
الرباط العربي الإسلامي الشامل لجميع الأعمدة الأربعة هو المقترب الأردني الأساس الذي سعى له الأردن. وقد بدا واضحاً أن هذه الحقيقة التي تعطي الوصاية الهاشمية دورها المتكامل في التصدي للمحاولات الإسرائيلية الناجمة عن قوانين شرّعتها إسرائيل تنظر إلى الأماكن المذكورة أعلاه على أنها هياكل يهودية صرفة، وهو أمر مخالف للتاريخ من حيث التأسيس (غزة مثلاً) ومخالف للعرف أن النبي إبراهيم عليه السلام كان أباً لكل الأنبياء، كما يتجلى ذلك في شعائر الحج عند المسلمين. وإبراهيم لم يكن يهودياً ولا نصرانياً، بل كان حنيفاً مسلماً.
إن بناء تكاتف وتحالف عبر المنطقة كلّها ينادي بضرورة منح الوصاية الهاشمية على الأماكن المقدسة في غزة والخليل تبعاً لما جرى في القدس، ومساهمة السلطة الفلسطينية في هذا الأمر، سيعزز دور السلطة ولن يتنافى مع سيادتها، وسيمنح الفرصة للهاشميين لكي يمارسوا دورهم الحمائي لكل الأماكن المقدسة.
نريد أن نرى تحركاً من أهل الخليل وغزة والقدس والضفة الغربية وفلسطين والأردن، ومن القادة العرب بهذا الاتجاه، حمايةً لكل عزيز ونابعٍ من صميم هويتنا العربية الإسلامية.
