الحدث الأبرز في تونس أخيراً إقالة الرئيس قيس سعيّد رئيس الحكومة كمال المدوري، الذي مضت على توليه المسؤولية سبعة أشهر فقط، وتعيين وزيرة التجهيز والإسكان سارة الزعفراني الزنزري بديلاً عنه، وهي رابع رئيس حكومة في أربع سنوات. وخلّف هذا القرار وراءه أسئلة عديدة، خاصة أن الذي جرى التخلي عنه يعدّ الأفضل مقارنة بسابقيه، باعتباره تكنوقراطياً منضبطاً وعملياً، فما الذي حدث حتى يتم التخلي عنه بهذه السرعة؟
لم يفهم التونسيون العلاقة التي أشار إليها الرئيس في خطابه أمام أعضاء مجلس الأمن القومي بين ظاهرة الانتحار الفردي بوسيلة الاحتراق التي عادت بشكل لافت، أو الاحتجاجات التي حصلت في بعض الأحياء الشعبية، وتغيير رئيس الحكومة. وهو ما أثار جدلاً، ودفع بعضهم إلى القول إن الخطاب الرئاسي كان يفتقر إلى التعليل المنطقي.
لقد شعر الرئيس بقلق شديد وهو يتابع ما يحدُث على الساحتين الاجتماعية والسياسية. ولهذا سارع من جديد إلى فرضية "المؤامرة" التي تخيّم على الأجواء منذ انفراده بالحكم. وقد أصبح هذا الشعور حادّاً إلى درجةٍ جعلته يربط آلياً بين حالات الاحتقان المختلفة التي برزت بوضوح في الفترة الماضية والمتهمين بالتآمر على أمن الدولة من قادة المعارضة المعتقلين، والذين ينتظرون الشروع في مقاضاتهم قريباً، فحقد الرئيس عليهم يتضاعف بشكلٍ رهيب، حيث يرى فيهم الخطر الداهم، والعدو الذي يجب القضاء عليه في أقرب الآجال. وأكثر ما يزعجه اتحادهم ضده رغم خلافاتهم الحادّة فيما بينهم، ولم يأخذ بالاعتبار أن سياساته تجاه معارضيه من دون استثناء، وميوله القوية نحو الحدّ من حرياتهم، قد تكونت وراء دفعهم نحو التحالف وإعادة ترتيب أولوياتهم.
الأزمة عميقة في تونس، وتتسع رقعتها يوماً بعد يوم. ولم تتمكّن السياسات المعتمدة من تخفيف الأزمة، بل زادت من حدّتها واستفحالها. وهو ما يفسّر تراجع الشعور بالخوف والحذر لدى عموم المواطنين، حيث تصاعدت وتيرة الحراك الاحتجاجي في البلاد، خاصة في المناطق الحساسة، مثل يوم الغضب الذي عاشته أخيراً ولاية قفصة، بقيادة منظمات المجتمع المدني الرئيسية، الذي توّج بمسيرة رفعت خلالها مطالب اجتماعية عديدة. وقبل شهر، اندلعت احتجاجات ليلية في القيروان استمرّت أياماً. ويخشى أن تتسّع الظاهرة لتشمل مناطق أخرى بحكم غلاء المعيشة غير المسبوق وتدهور الخدمات وأوضاع الصحة، وخصوصاً المطالبة بالتشغيل ومقاومة الفقر.
التعديلات الحكومية فن يتطلب معرفة دقيقة بالرجال والنساء. ومن شأن اللجوء إليه باستمرار وبشكل قياسي إرباك الدولة ومؤسّساتها. وهو بمثابة الدواء الذي يمنحه الطبيب لمريضه، فإذا أساء استعماله، أو تناوله بشكل مكثف وعشوائي يفقد جدواه، وقد يتحول إلى مجرد مسكّن، وقد يؤدّي إلى نتائج عكسية. نسأل الله أن يوفق رئيسة الحكومة الجديدة، لكن ما يخشى أن تكتشف صعوبة المهمّة في غياب البرنامج السياسي وقلة الخبرة، فتستقيل أو تُقال، فالزمن التونسي لم يعد يرحم.
هكذا وجد النظام نفسه غارقاً في المطبات نفسها التي وقع فيها السابقون الذين يحمّلهم قيس سعيّد مسؤولية "الخراب" على حد تعبيره، فالسلطة تتخبط في مواجهة المشكلات اليومية من دون أن تحقق إنجازات تذكر. تخوض معركة البقاء، وتواجه الملفات نفسها بالأدوات نفسها لتحقق نتائج أقل. وعندما يشعر النظام بالخطر ينتفض، ويحمّل المسؤولية للوبيات التي تمكّنت، حسب اعتقاده، من أن تخترق مقر الحكومة. وبناء عليه، تجرى التغييرات الوزارية من دون توقف. كما تتخذ إجراءات لاعتقالات جديدة لمسؤولين يتّهمون بالفساد وتبييض الأموال وما يشبه ذلك. لقد أصبحت هذه المعركة دائمة ومستمرّة ومتجدّدة، لتحجب بقية المعارك والجبهات والقضايا، حتى كادت أن تصبح الحرب على الفساد هي السياسة، وهي برنامج الحكم والشغل الأساسي للرئيس والنظام. وكادت التعديلات الوزارية أن تصبح غاية في حد ذاتها، ووسيلة لإقناع الرأي العام بأن الإدارة التونسية هي المسؤولة عن استمرار الأوضاع على ما هي عليه.
