لأسباب عديدة، شكل عازف موسيقى الجاز المصري، يحيى خليل (1943)، ظاهرة لافتة في الحياة الفنية المعاصرة، فقد بدأ رحلته مع العزف منذ أكثر من ستين عاماً، ثم كانت قدرته على الاستمرار، وإدامة التألق والحضور، ومواصلته تقديم الحفلات الموسيقية إلى اليوم، من أهم دواعي الانبهار بالرجل.
مسيرة خليل الفنية أشبه برحلة نضال انطلقت مبكراً، وفي توقيت لم يكن لموسيقى الجاز فيه جمهور واسع في مصر أو الشرق الأوسط. وكما اتسعت الرحلة زمنياً، اتسعت جغرافياً، بالسفر لأجل التعليم، ثم السفر لأجل تقديم العروض في مختلف عواصم العالم.
في الأول من الشهر الحالي، بلغ يحيى خليل 81 عاماً، لكنه وهو يسير في عقده التاسع، لا يكاد يعرف لمرور السنوات أثر على هوايته الأثيرة، لأن هذه الهواية بطبيعتها تحتاج دائماً إلى روح شابة، تتوافق مع ضربات الإيقاع عضلياً وحركياً ومزاجياً. لا يعترف خليل بالزمن، وهو مثل موسيقى الجاز، لا يتوقف أمام الحدود أو الجنسيات. فرقته تضم عازفين من مختلف قارات العالم، فيها المصري والأميركي والروسي والهندي والإيطالي واليوناني. لكن خليل حرص دوماً، وبطرق شتى، على الاحتفاظ بصلة واضحة مع الموسيقى المصرية.
ربما كان الطفل يحيى في عمر أربع سنوات حين لاحظ كل من حوله اهتمامه بالإيقاع، وبكل صوت منتظم، ومحاولته العزف بأي شيء يقع تحت يديه. كانت أدوات المطبخ هي آلاته الأولى التي يمارس من خلالها شغفه المبكر. كان كلما سمع أي نوع من أنواع الغناء أنصت إلى الإيقاع فيه، وحاول أن يتتبعه بشعوره. في مرحلة الصبا، وصله إرسال إذاعة "صوت أمريكا"، يحمل برنامجاً يومياً مدته ستون دقيقة بعنوان Jazz Our. كان هذا البرنامج النافذة الأولى التي أطل منها خليل على عالم الجاز كما يقدم في أميركا. أعجبته مساحة الحرية التي يتمتع بها العازفون.
في عمر 14، تحديداً عام 1957، أسس خليل فرقة رباعي القاهرة لموسيقى الجاز. والحقيقة أنها لم تكن فرقة متخصصة في الجاز، ولكنها كانت تقدم أشكالاً مختلفة من الموسيقى الغربية. وربما كان ذلك هو السبب في اختلاف الباحثين في تاريخ إنشاء أول فرقة جاز، وأيضاً اختلافهم في اسم منشئها.
يرى كثير من المهتمين بموسيقى الجاز أن العازف صلاح رجب (1935 - 2008) هو مؤسس أول فرقة متخصصة في تقديم موسيقى الجاز في مصر عام 1964 مع هارتموت جيركن وإيدو فيزفاري، وذلك بعد عودته من الولايات المتحدة. انضم رجب إلى الجيش المصري، وعين رئيساً لقسم الموسيقات العسكرية، الذي كان يضم حينها نحو ثلاثة آلاف عازف. ومن بين هذه الآلاف، انتقى رجب مجموعة مكونة من 20 عازفاً، ليتخصصوا في موسيقى الجاز، وألحقهم بمعسكر تدريبي ليتفرغوا لهذه المهمة. ومن بين تلك المجموعة كوّن رجب فرقة "كايرو جاز باند".
لا يبدو أن لهذا الخلاف حول الأسبقية قيمة وازنة. وقد يكون صلاح رجب بالفعل أسبق من يحيى خليل في إنشاء أول فرقة للجاز، فقد سافر خليل إلى أميركا عام 1966، في رحلة مهمة للدراسة والعزف وتحصيل الخبرات، ولم يرجع إلا عام 1979.
لفترة، انضم خليل إلى فرقة Les Petits chats التي أسسها وجدي فرنسيس عام 1967، وضمت عدداً من ألمع الأسماء التي تقدم الموسيقى الغربية في مصر، ومن بينهم عمر خورشيد، وعزت أبو عوف، وعمر خيرت. في عالم الجاز المصري، كان أثر يحيى خليل أعمق كثيراً من مسألة الأسبقية في إنشاء فرقة، إذ تجاوزها بتأثيره الشخصي، وأيضاً بتأثير فرقته التي أسسها لاحقاً في الأوساط الموسيقية المصرية كلها.
في أميركا، كانت حياة خليل مزيجاً من الدراسة، وممارسة العزف، والالتحاق بفرق مختلفة، ولقاء عازفين كبار لهم شهرتهم الكبيرة في الولايات المتحدة وفي العالم. تعرف خليل إلى موسيقى البلوز، وسمع عدداً من أهم عازفيها، ومنهم عازف البوق الشهير مايلز ديفيس (1926 - 1991)، وعازف الطبول إلفين جونز (1927 - 2004). كما التحق خليل بمعهد "ناب" للجاز مدة خمس سنوات، تتلمذ خلالها لعازف آلات البركشن الأشهر روي ناب. وبهذا التدريب، استطاع يحيى خليل أن ينطلق بأول جولة فنية له في الولايات المتحدة، وأن يقدم عروضه عازفاً على المسارح، وأن يلتقي عدداً من أبرز عازفي الجاز من أصحاب الشهرة العالمية.
بعد العودة إلى مصر، أصبح يحيى خليل رجل موسيقى الجاز الأول، فرقته هي الأشهر، والأسماء التي تتعامل معه هي الألمع. مع الوقت، بدأت معالم مشروعه تتبلور تدريجياً. يريد الرجل أن يؤسس لجاز مصري، وأن يكون ذلك عبر طريقين رئيسيين: الأول، إعادة تقديم بعض الأعمال الغنائية الشهيرة، من خلال توزيع مختلف، ورؤية مغايرة للإيقاع.
لا مانع أن تستمع الجماهير والأجيال الجديدة إلى أغان لأم كلثوم أو عبد الوهاب أو عبد الحليم حافظ أو فريد الأطرش بمقترح إيقاعي ينتمي إلى عالم الجاز المتسم بالارتجال والحرية و"احترام رأي العازف". والثاني، الاستعانة بالآلات الشرقية في عزف مؤلفات آلية، أو الأغنيات المصرية، ولا سيما تلك التي تعجز الآلات الغربية عن أن تعبر عنها.
صادف مشروع خليل جمهوراً واسعاً، وتلقاه الشباب بترحاب كبير، وانتظمت عروض الرجل وفرقته، وتمتع دائماً بحضور جماهيري مقدر. خارجياً، انطلق خليل ملبياً دعوات العروض في كثير من بلدان العالم، في أوروبا وآسيا وأفريقيا. وفي الولايات المتحدة، يحتفظ الرجل بفرقة مخصصة لحفلات المدن الأميركية، فعلاقة خليل بأميركا وخبرته بالاتجاهات الموسيقية فيها عميقة جداً.
ويرى عازف البيانو عمر خيرت أن إنجاز خليل لم يكن سهلاً، وأنه "استطاع أن يحصل خبرة كبيرة أثناء إقامته في الولايات المتحدة، ثم عاد إلى مصر وحاول أن يصوغ معادلة للمزج بين الموسيقى المصرية أو العربية وبين موسيقى الجاز الغربي، وهذا أمر يتطلب صبراً وجهداً كبيرين".
يرى الملحن حميد الشاعري أن خليل "ترك بصمة واضحة على الجيل الغنائي المعاصر، لأنه أدخل موسيقى الجاز على الموسيقى العربية، واستطاع أن يقدم ما يسمى بـOriental jazz".
من أهم السمات المميزة لمسيرة يحيى خليل الفنية، بل المميزة لشخصيته، أنه لم يكتف يوماً بدور الفنان الذي يقدم عرضه للجمهور ثم يمضي إلى سبيله، فمبكراً حوّل خليل نفسه إلى "داعية" لموسيقى الجاز، يعمل بكل ما أوتي من طاقة وموهبة وشهرة على نشرها، والتبشير بها، وتثقيف الجماهير بأشكالها وأعلامها.
على مدار سنوات، قدم الرجل البرامج التلفزيونية والإذاعية المخصصة للجاز، وروج لهذا اللون عبر لقاءاته الإعلامية ومقابلاته الصحافية. في التلفزيون كان هو معد البرنامج الأسبوعي "عالم الجاز" ومقدمه، وفي الراديو قدم برنامجاً يحمل الاسم نفسه.
ولا ريب أن خليل كان أحد صناع الانطلاقة الكبرى للمطرب محمد منير، وتحديداً مع صدور ألبومه الثالث "شبابيك"، الذي حقق لمنير مكانة جماهيرية وتجارية لم ينجح الألبومان الأول والثاني في تحقيقها. تمتع خليل دائماً بقدرة على قراءة اتجاهات الجمهور، وعرف كيف يخاطبه، وكيف يحدد الشريحة المستهدفة بخطابه الفني المتسم دوماً بالتجديد والتطور. وبالطبع، فإن نجاح الألبوم مثل محطة مهمة في مسيرة خليل، ووسع من دائرة الجمهور المهتم بموسيقاه وتوزيعاته.
ومن طرائف النجاحات الجماهيرية في رحلة خليل الفنية، أنه أهدى مقطوعة من مؤلفاته إلى برنامج "حكاوي القهاوي" الذي قدمته الإعلامية المصرية سامية الإتربي، وحظي بنسبة مشاهدة عالية. أحب الجمهور شارة المقدمة التي ألفها خليل وعزفتها فرقته، وهي في الأصل جزء من مقطوعة له بعنوان "قمر". صارت الشارة جزءاً من ذاكرة جمهور التلفزيون في عقد التسعينيات من القرن الماضي.
ينتظر جمهور يحيى خليل يوم 1 ديسمبر/كانون الأول من كل عام، للاحتفال بعيد ميلاد رائد موسيقى الجاز، الذي يحظى بمحبين ومتابعين يرون فيه أحد الأساطير الفنية الفريدة.. فهو الرجل الذي شارك كبار الفنانين العالميين العزف على أشهر مسارح العواصم الأوروبية والمدن الأميركية.. وهو الرجل الذي قدم أكثر من خمسة آلاف عرض موسيقي، وهو أيضاً الرجل الذي أكد معنى الاستمرار من دون أن يخبو أو ينطفئ أو يتعلل بتقدم السن. فخلال نصف قرن، لم يعرف الجمهور طريقاً للجاز إلا عبر يحيى خليل.
