"أرماند" للنرويجي توندال: نصفه سينمائي والباقي مُكرّر

منذ ٤ ساعات ١١

 

في أول روائي طويل له، "أرماند" (2024)، تناول النرويجي هالفدان أولمان توندل، العلاقات المُعقّدة التي تفرزها العائلات في خلافات أفرادها ومواجهاتهم، مُبرزاً تأثيراتها على الأطفال. هذا محور ركّز عليه، كونهم ضحايا دائماً، بعد تلويث عوالمهم المثالية والصافية بأزمات ومشاكل لا تنتهي، وكون عقولهم وأجسادهم في حالة تلقٍّ دائم. في الفيلم (سيناريو توندل)، هذا العالم المثالي، الذي يحيا فيه الطفل (ستة أعوام)، سيصير مستقبلاً قاتماً ومُضرّاً وظالماً له، لو أخذت الاتهامات بحقّه اتّجاهاً مُضللاً إلى النهاية، بعد اتّهام إدارة مدرسته له بالتحرّش الجنسي بزميله وصديقه المُقرّب.

الضحية ابن سارة (إيلين دوريت بيترسن)، وعمّة أرماند (لوك نيكولايسن)، التي قرّرت مع زوجها أندرسن (أندريه هيليستڤيت) الذهاب بعيداً في تلك القضية الحساسة والخطرة، والمثيرة لأسئلة عدّة. في السياق هذا، قرّر المدير كارل (أويستاين روجر) عقد جلسة مكاشفة بين الأهل، تمثّل فيها إليزابيث (ريناتي راينسفا) أرماند، كونها والدته، علماً أنّ والده توفّي حديثاً.

بهذه المناقشات، التي تشرف عليها المُدرّسة سيون (فولن ثي لامبريشتس)، تأخذ الوقائع أبعاداً متشابكة، بعد تكشّف حقائق عدّة، فترتسم زوايا جديدة في القصة، لم تعلم بها إدارة المدرسة، انطلاقاً من التحرّش المفترض، والإدارة لا تملك أدلّة موثوقاً بها، بل فقط افتراضات، لا تقود إلى أي حقيقة واضحة، وللمعنييّن من عائلة واحدة خلافات كثيرة، مع أنّها غير مكشوفة، لكنّها مُحرّكة أساسية للواقعة.

يتقاطع "أرماند"، بموضوعه وطريقة معالجته، مع "غرفة المعلّم" (2023)، للألماني ذي الأصل التركي إيلكر تْشَتاك. والتقاطعات تلك في ثيمة الطفل/المدرسة، وكيفية تعامله مع الأخطاء، والمشاكل التي يتورّط بها، أو يجد نفسه فيها. إضافة إلى الحيّز المكاني، الذي تعكسه إدارة المدرسة والمعلّمين، وما اتصل بهذا الفضاء، لكنّ "غرفة المعلم" تعامل مع واقعة سرقة، فيما تعامل "أرماند" مع واقعة تحرّش، مع ما تفرزه تلك المعضلات من نقاشات محورية مشابهة لأي وضع.

"أرماند" أقلّ أصالة وعمقاً وإنسانية من "غرفة المعلّم"، لأنّه يُثير إحساساً بأنّ صاحبه ينحت في صخر، بينما مخرج الثاني كأنّه يغرف من بحر. أي أنّ الثاني أكثر انسيابية ومنطقية، في الحوارات والنقاشات، وفي المنطلقات القانونية والأخلاقية والفلسفية. كما انعكس في الأول الإطناب والحشو وعدم الانسجام، وهذا أساسي أنتج عدم راحة في المُشاهدة، فالمخرج مدّد أحداث فيلمه من دون دافع درامي أو منطلق فني، فألغى عنصراً مُهمّاً من المُشاهدة، مع عدم توفّر بدائل مولّدة للفعل الدرامي، بحكم محدودية الفضاء، وتشابه الشخصيات، وغياب صورة الطفل أرماند، الذي حضوره معنوي، مع أنّه كان يُمكن أنْ يكون أقوى لو استُمع إلى وجهة نظره ومعاينة عوالمه الطفولية. هكذا يُصبح التلقّي أقوى، بغياب البدائل البصرية والتأويلية.

 

 

لم يكن الإطناب وعدم أصالة الفكرة سبب إضعاف "أرماند" فقط، فهناك معطيات أخرى ساهمت فيه: التكلّف الظاهر في مشاهد عدّة، كاستماع سارة خفية إلى حديث زوجها مع أليزابيث، ومحاولة تحرّش هذا الزوج بوالدة أرماند في موقع آخر، وحديث المُدرّسة سيون مع زميلها عن الواقع، رغم تنبيه المدير بسرّية الأمر، من دون أي مبرّر أو دافع. كلّها معطيات غير مُقنعة درامياً، تُعطي شعوراً بأنّها مفتعلة ومُمَثَّلة، فهناك غياب واضح للانسجام بين المَشاهد، ولا توجد انسيابية في الأحداث. هذا ساهم في إضعاف الفيلم، وأوجد عدم ارتياح. النتيجة: عدم التعاطي بجدّية مع القضية الأساسية.

رغم الهنات تلك، هناك جماليات أغنت "أرماند"، خاصة في نصفه الأول. أي إنّه بدأ قوياً وحاسماً، وخلق توتراً وقلقاً في المتلقّي، انعكسا في الحالة النفسية لإليزابيث في قيادتها السيارة. إضافة إلى أجواء الاجتماع، وفضولها الكبير لمعرفة سرّ الاستدعاء، وطريقة حديث المدير وإدارة المدرسة لإيجاد صيغة واختيار الكلمات المناسبة في النقاش. هذه منطلقات قوية وفاصلة. لكنْ، بعد النصف الأول، لم يجد توندل ما يقوله، ما جعله يعيد صوغ أحداثٍ بطريقة مختلفة، من دون جديدٍ، ومن دون مفاجأته الملتقّي. كما أنّ اختيار الممثلين موفّق وقوي، خاصة ريناتي راينسفا، التي أثبتت، أكثر من مرة، بأنّها ممثلة قوية تصنع الفارق في أي فيلم، بالتقاطها حالات نفسية وعاطفية مختلفة، ومع كلّ حالة تُقنع بدورها، خاصة أنّها أظهرت سابقاً موهبتها في "أسوأ شخص في العالم" (2021) ليواكيم ترير.

يُذكر أنّ فوز "أرماند" بجائزة الكاميرا الذهبية لـ"نظرة ما"، في الدورة الـ77 (14 ـ 25 مايو/أيار 2024) لمهرجان "كانّ"، أثار سؤالاً عن سبب الفوز، لأنّ توندل حفيد المخرج إنغمار برغمان والممثلة ليف أولمان: أتكون تلك العلاقة العائلية سبب ذلك، وأولاً سبب مشاركته في هذا المهرجان العريق؟ ألهذا كلّه اختلفت الآراء النقدية حوله؟

قراءة المقال بالكامل