تمر أسواق قطاع غزة بحالة من التهاوي التدريجي في الأسعار الخاصة بالسلع الأساسية بما فيها الغذائية والمنزلية بعد دخول اتفاق وقف إطلاق النار حيز التنفيذ وتواصل تدفق المساعدات لليوم الثالث، إلا أن ذلك الانخفاض يواجه بضعف شديد في القدرة الشرائية لدى المواطنين بفعل استنزاف طول أمد الحرب لإمكانياتهم المادية والاقتصادية والمعيشية.
وبدأ التجار الذين كانوا يحتفظون بمخزونهم خلال المقتلة الإسرائيلية في تصريف منتجاتهم المتكدسة بأسعار منخفضة، مع بدء تدفق البضائع وفق البنود المتفق عليها في صفقة التبادل بين المقاومة الفلسطينية والاحتلال الإسرائيلي.
هذه الانخفاضات السعرية تصطدم بمفارقة مؤلمة، إذ جاءت متأخرة بعد أن استنزفت الحرب أموال الأسر الفلسطينية التي اضطرت إلى إنفاق ما تملكه من مدخرات على المتطلبات اليومية والضرورية مثل الغذاء والمياه والتكاليف الباهظة المرافقة لهم في حياة التنقل المتكرر والإجباري في رحلة النزوح القاسية، في ظل شح البضائع ووصولها إلى مستويات غير مسبوقة من الغلاء تخطت حاجز 500% أو يزيد.
ويعتبر الإرهاق الذي أصاب جيوب الفلسطينيين من بين أبرز الأسباب التي ساهمت في ضعف الإقبال على البضائع بعد أن بدأت الأسعار بالانخفاض التدريجي نتيجة النقص الحاد في السيولة النقدية واضطرارهم إلى التكييش (الحصول على مدخراتهم البنكية بنسب تخطت 30% من المبالغ المراد صرفها)، كذلك إنفاق مدخراتهم في سبيل النجاة من ويلات الحرب والجوع ودفع الإيجارات المرتفعة بعد هدم آلة الحرب لبيوتهم ومناطقهم السكنية.
تكدس البضائع في غزة
ويعود انخفاض الأسعار بشكل ملحوظ في البضائع الأساسية مثل الدقيق والأرز والسكر والزيت والبقوليات والخضار والفواكه والأجبان والملابس والأحذية إلى تكدس البضائع أثناء الحرب في مخازن بعض التجار بغرض الاحتكار ومحاولة تصريفها مع سريان الهدنة وعودة الحركة النسبية والأنباء المتواردة بخصوص دخول كميات كبيرة من المساعدات الإنسانية، بالتزامن مع ضعف الطلب بسبب استنزاف الحرب لأموال الفلسطينيين لتلبية احتياجاتهم الأساسية، إلى جانب فقدانهم مصادر دخلهم الأساسية بفعل القصف والنزوح.
ويعكس تهاوي الأسعار في غزة واقعاً اقتصادياً مضطرباً، حيث تزدحم الأسواق بالبضائع، ولكن العائلات لا تمتلك القدرة الشرائية الأمر الذي يشعرهم بالعجز بفعل عدم امتلاك اللازم، فيما يعرب التجار عن خيبة أملهم وإحباطهم من ضعف الإقبال على الرغم من انخفاض الأسعار.
عشوائية الأسواق
يوضح تاجر المواد الغذائية خالد أبو عسكر، أن العدوان الإسرائيلي سبّب حالة من العشوائية في الأسواق بسبب منع إدخال البضاًئع بفعل إغلاق المعابر أو دخولها بشكل غير منتظم وتعرضها للإخفاء والاحتكار تارة، أو إغراق السوق ببعض الأصناف غير الأساسية تارة أخرى.
ويقول أبو عسكر لـ "العربي الجديد": "في الحرب كانت الأسعار مرتفعة الأمر الذي تسبب بحصول المواطنين على كميات محدودة، ما أدى إلى تكدس البضائع، ومع دخول الاتفاق حيز التنفيذ وبدء تدفق البضائع اضطررنا إلى خفض الأسعار لمجاراة السوق، إلا أن ذلك الانخفاض قوبل بعزوف كذلك بفعل إنهاك الحرب لجيوب الفلسطينيين نتيجة إجبارهم على شراء المتطلبات الأساسية بأسعار جنونية".
أما الشاب سامي الصالحي (28 عاماً) والمتعطل عن العمل منذ اليوم الأول للعدوان بفعل قصف بيته وبقالته ومن ثم نزوحه إلى المحافظات الوسطى، فيبين لـ "العربي الجديد" أن العدوان الإسرائيلي على مدار ما يزيد عن خمسة عشر شهراً استنزف كل مدخراته الخاصة بتطوير بقالته، بسبب تضاعف أسعار كل الأصناف الأساسية واللازمة خلال فترة النزوح.
ويلفت الصالحي إلى أن انخفاض الأسعار لا يشمل كل الأصناف، ومع ذلك فإنه يأتي في الوقت الذي باتت فيه جيوب الفلسطينيين فارغة بفعل التأثيرات الكارثية للحرب، مضيفاً "عزوفي عن الشراء ليس ترفاً، بل أنا في أمس الحاجة إلى الكثير من المتطلبات اللازمة لأسرتي إلا أن الأوضاع الاقتصادية الصعبة بفعل عدم وجود مصدر دخل تحول دون قدرتي على توفيرها".
فرحة ينغصها فراغ الجيوب
كذلك توضح الفلسطينية ياسمين السعدي أنها شعرت بالفرحة لحظة دخول وقف إطلاق النار حيز التنفيذ وبدء هبوط الأسعار، إلا أنها سرعان ما تذكرت أوضاعها المادية المتردية والتي لا تمكنها من شراء البضائع وإن كانت بأسعار طبيعية "الحرب أرهقتنا، وحياة النزوح كانت مكلفة جداً بفعل اضطرارنا إلى شراء ما يعيننا على قضاء الحوائج اليومية بأسعار مضاعفة".
وتشير السعدي إلى أن غلاء الأسعار خلال الحرب بفعل إغلاق المعابر والاستغلال والاحتكار وسرقة شاحنات المساعدات من العصابات المسلحة استنفد مدخرات زوجها، وأجبره على الشراء بالدين، فيما لم يعد بإمكانه الاستدانة نظراً إلى زيادة المبالغ المستحقة عليه، وهي أمور أبقتهم عاجزين عن شراء البضائع التي انخفضت أسعارها بشكل ملموس، ولكن بعد فوات الأوان، وفق تعبيرها.
ويعكس انخفاض الأسعار في أسواق قطاع غزة بعد وقف إطلاق النار وفرة السلع نتيجة ضعف الطلب، إلا أن تلك الوفرة تواجه صعوبات في بيعها بفعل انعدام السيولة لدى الناس الذين استنزفتهم الحرب، ويبقى أمامهم تحديات جسيمة في كيفية تعويض خسائرهم.
