قلّة عقل وإدراك خبايا المسائل وحتى سطوحها. زمان، قال إيش قال، كنتُ أعتبر حالي منفيّاً، حتى وأنا داخل البيت، على رأس المخيّم. كنتُ غالباً ما أرى - بتأثير من وجوديّات الغرب وعبثيّاته - أن ما يعادل وجودي في بيت المخيّم، يعني بالضبط هذه الكلمة: لا مأوى!
اليوم وقد راح البيت، وراح دفؤه وحجارته وذكرياته الحميمة، أبكي على طلَلي البعيد من أقاصي أرض "فلاندرز"، وأقول إن المرء لا يعرف قيمة الحاجة سوى في حال فقَدَها. أستحقّ والله. كنت أعيش في أعلى نعمة، ولم أكن أُوليها حقَّها. كنتُ بطراناً من وراء تلك الوجوديات الفارغة، التي شاعت لدى أوروبا، بعد مقتلة الحرب الأهلية الثانية. ثم شاعت لدى مثقّفينا في عقدَي السبعينيات والثمانينيات، وحتى ما قبلهما، مخلوطة بتيارات العبث التالي، في دول المشرق والمغرب.
أنا ما لي وسارتر وكيركيغارد وبيكيت وباقي الشلّة؟
ألم يكن أَولى بي وقتها، أن أُقاوم بما ملكت يداي، كي أُحافظ على بيت المخيّم الصغير، وعلى ما تبقّى لنا من البلد، بوصفه وطناً، والوطن هو بيت الإنسان الأعظم والأكبر، عِوضَ تلك الفوارغ من القراءات التي لا تُغني من جوع ولا تقاوم محتلّاً، ولا تحرّك ساكناً عن ساكن؟
■ ■ ■
من يدري يا أخ؟ فقد يأتي الوعي مع إدراك الكلمات التي لم تعُد مُستخدمة، والمعاني التي لم يعد أحد يعرفها اليوم، والكلمات التي فقدت مرجعيتها مثل الثورة، واليسار، والشرف الوطني، وكرامة الفقراء الذين تحوّلوا إلى طبقة متوسطة.
لماذا؟ لأنه لا يوجد عالم خارج اللغة؛ لأن اللغة هي كلّ شيء، لأنه في الواقع لا يوجد معنى بلا كلمات، بل لا يوجد شيء على الإطلاق خارج عضلة اللسان. حتى أنتَ شخصياً حين تودُّ استعادة كلّ ما فقدته، تبدأ من خلال اللغة، في الحقيقة.
المؤلّفون بالأخصّ، ومطلقو صرخاتهم على أشباح الليالي، يعرفون هذا كذلك. حتى الحاكم العربي مُدرك تماماً لهذا الشأن البدهي، فهو يحوّل اللغة من كلمات إلى مسخرة، خارج أي ترابطات بين المعنى والمبنى، لكي تتلخبط الأمور ويتوه الناس.
أما الشاعر في الزمن الرثّ، فقد يفقد صوابه. يحوّل العالم إلى عبث ماسخ، وليس إلى استعارة للعديد من حالات الاختفاء الأُخرى التي تحيط به غبّ تجبّر بعض الفصول فحسب، إنما أيضاً في الأعراض الناتجة عن هوان المعنى، يفقد محبّو اللغة الأُمّ، خشبَ رُسوّهم الآمن. بل إن ضيعة المعنى، هي سبب كلّ بلوى: لأنه عندما تموت الكلمة بتخلّيها عن معناها الأصلي، فإن الواقع الذي تشير إليه، يموت هو أيضاً.
لماذا؟ لأنه عندما نتوقف عن استخدام كلمة ما، وبالتالي تسمية شيء ما، فإنّ هذا الشيء يتوقّف عن الوجود، مِن أسف.
لذلك، لا يبدأ كفاح اللغة إلّا من كفاح الواقع.
عندما يَرِثّ الواقعُ، تَرِثُ كلُ لغة رثاثته، ولو لم ترغب. تلك هي حال الدنيا، بعيداً عن المثقفين والمتثاقفين. ليت هذه البشرية إذن، ترجع إلى زمن الأسلاف القافزين بين الأغصان. كان شرّ هؤلاء - رحمهم الله - لا يقاس بما يحوزه اليوم، رجلُ الغرب الأبيض، المتطرّف غير المتوسط.
* شاعر فلسطيني مقيم في بلجيكا
