التقى في مسرح "جامعة جورجتاون" بفرعها في قطر، ثلاثةُ كتابٍ من فلسطين يحاولون اجتراح طرقهم لرسم ملامح السرد الفلسطيني، وهم ينتمون معاً إلى فكرة كُبرى جامعة أراد الاستعمار الاستيطاني صوغ إحداثيات تُشتتها عن بعضها البعض، وهو يضعهم وشعبهم أمام لحظة وجودية حرجة غير مسبوقة.
جمعت الندوة، مساء أول أمس الأربعاء، كلاً من الروائية ابتسام عازم، صاحبة رواية "سفر الاختفاء" التي وصلت مؤخراً إلى القائمة الطويلة لـ"جائزة بوكر الدولية" لعام 2025؛ وعبر الفيديو الشاعر والناشط محمد الكرد، مؤلّف المجموعة الشعرية "رفقة" التي صدرت بالإنكليزية، والذي برز اسمه عام 2021 عندما وثّق هو وشقيقته منى طرد العائلات الفلسطينية من منازلها، في حي الشيخ جراح بالقدس، وأُدرج اسماهما في قائمة أكثر 100 شخصية مؤثرة في العالم من قبل مجلة "التايم" الأميركية، إضافة إلى الصحافي أحمد الناعوق، مقدّم بودكاست "Palestine Deep Dive"، وأحد مؤسّسي مبادرة "نحن لسنا أرقاماً"؛ وهي منصّة تعنى بمنح الشباب في غزّة مساحة لكتابة قصصهم الشخصية، بعيداً عن الأرقام المجردة والتغطيات النمطية.
أقيمت الندوة بالتعاون مع "احتفالية فلسطين للأدب" التي أسّستها عام 2008 الروائية المصرية أهداف سويف، وتولّت إدارتها الروائية الباكستانية البريطانية كاملة شمسي. وإذا جاز إعطاء عناوين السرد والشعر والصحافة بحسب هويات المشاركين، فإن اللقاء الثري في الطروحات الحيوية فتح الباب أمام تأمّل أعمق لدور الكتابة، والعمل التنظيمي المدني الضاغط عبر مؤسّسات ولغات العالم.
ولعل الاختفاء أو الغياب حين يتعلّق بالفلسطيني، يبدو من أشد الموضوعات قسوة وخيالاً، إلا أنه سيكون موضوع رواية ابتسام عازم. نُشرت الرواية باللغة العربية عام 2014، ثم تُرجمت إلى الإنكليزية. وعن الفكرة التي قدحت شرارة الرواية قالت إنها كانت في نيويورك لدى مشاهدتها مقابلة مع عمدة القدس على قناة تلفزيونية وفي تلك المقابلة، كان يروي أكاذيب صريحة عن الوضع في القدس.
وأضافت "لم يكن ذلك جديداً بالنسبة لي، لكن ما أغضبني هو كيف تُرك ليروي أكاذيبه دون أن يُتحدّى أو يُكذّب". لقد وقفت الكاتبة أمام مقولة إسحاق رابين "أتمنى أن أستيقظ يوماً من النوم فأرى غزّة وقد ابتلعها البحر". على هذا كانت تتساءل: ماذا سيفعل المجتمع الإسرائيلي الاستيطاني إذا اختفى "عدوهم"، أي أصحاب الأرض الأصليون لفلسطين؟
فكرة جامعة أراد الاستعمار الاستيطاني صوغ إحداثيات تُشتتها
لم ترغب المتحدثة في جعل الرواية تدور حول الإسرائيليين فقط، بل كانت نيّتها إعادة السردية الفلسطينية إلى المركز، وخاصة النكبة، إذ "بقيتُ تشعر أثناء نشأتي في فلسطين أنَّ ثمة نوعاً من فقدان الذاكرة عند الحديث عن النكبة، والكثير من الإسرائيليين الليبراليين المزعومين يتحدثون عن احتلال الضفة الغربية، لكنهم لا يتحدثون عن سبب وجودنا هنا، أو عن سبب كون غالبية سكان غزة هم لاجئون من عام 1948".
من جهته يعتقد محمد الكرد أن اللحظة الحالية تتطلّب انتباهاً كاملاً، لكنها أيضاً قد تقوّض الإيمان بقدرة الأدب، سواء كان روائياً أو غير روائي أو شعرياً، على إحداث التغيير. لا يريد الكرد أن يناقض ذاته وهو صاحب مجموعة شعرية تحمل اسم جدته "رفقة"، وابن حي مقدسي يقاوم هجمة استيطانية، بيد أنَّ الصور المروعة للإبادة الجماعية على الشاشات، تتخللها مشاهد لأشخاص يرقصون أو يعيشون حياتهم العادية، يجعلنا نتساءل: بعد رؤية الناس لهذه المشاهد، ما الذي يمكن أن تفعله كلماتي لتغيير عقولهم؟
هذا السؤال على لسان محمد الكرد، دون أن يذعن للاختفاء بدليل أنه يراهن على قصيدة تصون الروح والذاكرة. وهو في الوقت ذاته يرى من المهم أن نتذكّر أننا لا نكتب فقط للحظة الحالية، بل نسجل للتاريخ، ونكتب سرداً مضاداً للسردية المهيمنة التي تسعى إلى تشويه صورة الفلسطينيين ومقاومتهم. وهناك كما يخلص جهد منظم ومدروس، ليس فقط في الغرب، ولكن في جميع أنحاء العالم، لتشويه النضال الفلسطيني وطمس التاريخ الفلسطيني، "وهذا هو السبب في أننا نكتب، ليس فقط شهادةً، بل واجباً أخلاقياً".
لم يرغب أحمد الناعوق أن يصبح صحافياً أو كاتباً. هكذا يستهل القول مؤكّداً أنه لطالما حلم بأن يكون مهندساً أو طبيباً أو أي شيء آخر. هذا الاستهلال ليس هدفه سوى التعبير عن خلق عالم صحافي إجباري، سببه العيش في غزّة، والعيش في فلسطين عموماً. حين استشهد شقيقه عام 2014، طُلب منه أن يكتب قصته، وعندها أدرك أن الكتابة يمكن أن تساعده، ويمكن أن تساعد الفلسطينيين.
وفي ملاحظته الوجيهة يشير إلى أن الحديث عن الفلسطينيين كثيراً ما كان يقع من قبل آخرين، ولم يُعطوا الفرصة للتحدث عن أنفسهم. وبإدراكه ضرورة أن يكون صحافياً وكاتباً قدم للكثير من الشباب في مشروع "نحن لسنا أرقاماً" النموذج الذي يفيد بأن الصحافة ليست مجرد مهنة، بل مسؤولية أخلاقية. وعليه، وكما يختم الناعوق، ليس لديه خيار سوى الكتابة عنهم، حتى لا تنسى العائلة الفلسطينية، بل إنه "إذا لم نكتب نحن عنهم، فلن يفعل أحد ذلك".
