يحتلّ شمال نهر الليطاني العنوان الأبرز على الساحة اللبنانية اليوم في ظلّ الضغط الأميركي الدبلوماسي والإسرائيلي الميداني بهدف سحب سلاح حزب الله وتفكيك كامل المنشآت العسكرية منه ومن باقي الأراضي اللبنانية، وذلك بعدما كانت المقاومة ترفض سابقاً إدراج شمال الليطاني في قائمة البحث، فيما كان جنوبه يستحوذ على الاهتمام الأكبر طوال العقود الماضية أخذاً بعين الاعتبار القرارات الدولية والاعتداءات الإسرائيلية التي تركز على هذه المنطقة إلى جانب تركّز عمليات مقاومة الاحتلال قبل التحرير في عام ألفين فيها.
وقدّم المبعوث الأميركي توماس برّاك خلال زيارته بيروت في 19 يونيو/حزيران الماضي مقترحاً أميركياً من ثلاثة عناوين أساسية، تشدد فيه واشنطن على سحب السلاح في شمال الليطاني، وفق ما كشفت مصادر رسمية لبنانية لـ"العربي الجديد" في وقت سابق.
وعلى الرغم من قيام الجيش اللبناني بتفكيك بعض المواقع ومخازن الأسلحة التابعة لحزب الله في شمال الليطاني والضاحية الجنوبية لبيروت والبقاع، بيد أنّ المهام الأوسع والأكبر كانت على مستوى جنوب نهر الليطاني. ويرفض حزب الله الخوض في ملف تسليم سلاحه، خصوصاً مع استمرار احتلال إسرائيل خمس نقاط في الجنوب اللبناني، وتنفيذها اعتداءات يومية على الأراضي اللبنانية، وأسرها عدداً من اللبنانيين.
ويكثّف لبنان اليوم اجتماعاته للخروج بصيغة موحّدة للرد على المقترح الذي حمله برّاك، وعنوانه الأبرز حصر السلاح بيد الدولة، محاولاً تقديم جواب سريع قبيل عودة برّاك المرتقبة إلى بيروت في الأيام القليلة المقبلة، خصوصاً أنّ التهديدات الإسرائيلية يرتفع منسوبها كما العمليات العسكرية التي بلغت أشدها قبل أكثر من أسبوع في النبطية، التي تعدّ شمال الليطاني، علماً أن الأجواء تشي حتى الساعة بربط المسؤولين اللبنانيين ملف السلاح، بأولوية انسحاب إسرائيل من النقاط الخمس ووقف هجماتها.
أهمية شمال الليطاني
يشرح العميد اللبناني المتقاعد علي أبي رعد، في حديث مع "العربي الجديد"، أنّ نهر الليطاني هو النهر الأطول والأكبر في لبنان، ولديه أهمية عند العدو الإسرائيلي منذ ما قبل وجود حزب الله، وذلك لأسباب عدة، أبرزها بُعده بحوالي 30 إلى 33 كيلومتراً عن الحدود مع فلسطين المحتلة، وتالياً موقعه الاستراتيجي الجغرافي، مذكّراً بما سُمّي "عملية الليطاني" في عام 1978 (حملة عسكرية إسرائيلية في جنوب لبنان)، والأحداث التي تبعتها في محاولة العدو لإبعاد المقاتلين اللبنانيين والفلسطينيين إلى شمال نهر الليطاني.
علي أبي رعد: الإسرائيلي كان دائماً يحاول إبعاد حزب الله إلى شمال الليطاني، كي يأمن من الصواريخ التي يمتلكها، لاسيما قصيرة المدى منها
ويلفت أبي رعد إلى أن "النهر قُسّم إلى جزيرتين، أتت من خلالهما تسميتا جنوب وشمال الليطاني، لكن التركيز والإضاءة كانا أكثر على جنوب الليطاني بالنظر أولاً إلى أهميته الجغرافية الاستراتيجية، فهو مقسّم إلى قطاعات ثلاثة، الغربي، الأوسط والشرقي، وفيه تلال كانت تحتلها إسرائيل، ومنها لا تزال فيها تشرف على فلسطين المحتلة والمستعمرات الإسرائيلية، وثانياً، على مستوى حضور حزب الله فيه خصوصاً بعدما عزّزه عسكرياً إبّان عدوان يوليو/تموز 2006".
ويشير أبي رعد إلى أن "لا إحصاء رسمياً للمساحة الكلية لجنوب الليطاني لكنها تقريباً 900 كيلومتر مربع، ويقطنها حوالي 270 ألف نسمة، والغالبية أي حوالي 80% من الطائفة الشيعية وما يُعرف ببيئة حزب الله، بينما تتوزع النسبة المتبقية بين السنّة والمسيحيين والدروز". ويلفت إلى أن "الإسرائيلي كان دائماً يحاول إبعاد حزب الله إلى الشمال، كي يأمن من الصواريخ التي يمتلكها، لاسيما قصيرة المدى منها، علماً أنه بعد عام 2006، تطوّرت التقنيات لدى حزب الله ونوعية الأسلحة والصواريخ في ترسانته العسكرية، ما عزز إصرار العدو على إبعاده إلى ما وراء جنوب الليطاني".
ويشرح أبي رعد أنه "في أغسطس/آب 2006، صدر عن مجلس الأمن القرار رقم 1701، الذي تألف من 19 فقرة، ودعا إلى وقف فوري للعمليات القتالية بين حزب الله وإسرائيل، ونصّ على مبادئ أساسية، أبرزها، الاحترام التام للخط الأزرق من جانب الطرفين، وإنشاء منطقة بين الخط الأزرق ونهر الليطاني خالية من أي أفراد مسلحين أو معدات أو أسلحة، مع بقاء قوات يونيفيل (القوة الأممية المؤقتة في جنوب لبنان) والجيش اللبناني في قطاع جنوب الليطاني، على أن تقوم القوات الأممية بدوريات أو مداهمات برفقة الجيش عند ورود شكاوى".
ويقول أبي رعد إن الجانب اللبناني نفذ البنود الواردة في اتفاق وقف إطلاق النار الذي دخل حيز التنفيذ في 27 نوفمبر/تشرين الثاني الماضي، فيما الجيش اللبناني ينتظر انسحاب إسرائيل من النقاط الخمس لإكمال انتشاره، في حين أن الإسرائيلي هو الذي يواصل خرق الاتفاق، ويستمر في تنفيذ اعتداءات أسفرت عن سقوط أكثر من 200 شهيد.
يُذكر أن اتفاق 27 نوفمبر نصّ على أنه " بدءاً من منطقة جنوب الليطاني، يتم تفكيك جميع المنشآت غير المرخصة القائمة لإنتاج الأسلحة والمواد ذات الصلة، ومنع إنشاء مثل هذه المنشآت مستقبلاً، وتفكيك جميع البنى التحتية والمواقع العسكرية، ومصادرة جميع الأسلحة غير المرخصة التي تتعارض مع هذه الالتزامات".
ويردف أبي رعد أن "التركيز اليوم على شمال نهر الليطاني في ظل المتغيرات التي جرت في المنطقة خصوصاً بعد سقوط نظام بشار الأسد في سورية، والحرب في اليمن، والحرب الإسرائيلية الإيرانية، بحيث حصل الإسرائيلي على ضوء أميركي بتنفيذ اعتداءات وعمليات اغتيال خارج إطار جنوب نهر الليطاني، وهو يرى أنه أمام فرصة لإنهاء حزب الله سواء عسكرياً أو حتى كذلك سياسياً، علماً أن غالبية الخروقات لا تزال تحصل في الشق الجنوبي، رغم أنه بات منزوع السلاح، وذلك في إطار مخطط أميركي إسرائيلي لعدم السماح للسكان بالعودة إلى قراهم أو إعادة إعمار وترميم منازلهم".
مرحلة جديدة؟
من جانبه، يشير الأكاديمي والحقوقي علي مراد، في حديث مع "العربي الجديد"، إلى أن "القرار 1701 الصادر عن مجلس الأمن في عام 2006، يشمل جنوب الليطاني، لكن من الواضح أن هذا القرار في طريقة تطبيقه والموازين التي أفرزتها حرب 2006 ليست نفسها على مستوى الحرب الأخيرة، بحيث إن موازين القوى أصبحت لصالح إسرائيل بشكل حاسم".
ويلفت مراد إلى أنّ انتشار الجيش اللبناني في الجنوب بعد الانسحاب الإسرائيلي عام 2000 كان موضوعاً إشكالياً، وعندما كانت تخرج أصوات تطالب بانتشاره، كان يقابلها خطاب تخويني، لكن بعد حرب يوليو 2006 انتشر الجيش في جنوب الليطاني وجرى توسعة عديد يونيفيل لتغطي كامل منطقة جنوب الليطاني، تطبيقاً للقرار 1701، وكان الجيش اللبناني موجوداً في شمال نهر الليطاني، علماً أنّ ذلك لم يعنِ حصرية السلاح بيده، بحيث استمر حزب الله في بناء ترسانته وقدراته العسكرية وتطويرها.
علي مراد: الفصل المفتعل بين شمال نهر الليطاني وجنوبه لم يعد ذا جدوى بالمعنى السياسي والتاريخي
من ناحية ثانية، يشير مراد إلى أن "هناك تفسيرات مختلفة لاتفاق وقف إطلاق النار الأخير وتحدّثه عن تسليم السلاح بدءاً من جنوب الليطاني، وحزب الله يتصرّف على أساس أن الاتفاق وتطبيق القرار 1701 وحدود عمل اللجنة المكلفة مراقبة تنفيذ الاتفاق يقتصر على جنوب الليطاني، وتالياً، فعدم تسليم السلاح شمال الليطاني لا يُعتبر خرقاً للاتفاق".
ويعتبر الأكاديمي والحقوقي اللبناني أنّ "المسألة في المحصّلة أوسع من ذلك وهي مرتبطة بميزان قوى حقيقي، وهذا الميزان عسكرياً وميدانياً من جهة، إلى جانب سقوط النظام السوري، ووضع المحور ككلّ، يظهر أن هناك مرحلة قد انتهت، ووضعا قائما غير قابل للتعديل لصالح حزب الله، وأن الفصل المفتعل بين شمال وجنوب نهر الليطاني لم يعد ذا جدوى بالمعنيين السياسي والتاريخي".
