السوري العلوي المُذنِب حتى تثبت براءته

منذ ١ أسبوع ٢٣

مع انطلاق الثورة السورية (2011)، أقسمت الراحلة فدوى سليمان، ومجموعةٌ من السوريين، متعهّدةً وإياهم بالحفاظ على سورية حرّة مُحبّة موحّدة. اختارت حمص، حيث الديمغرافيا تلخّص تنوّع السوريين، علّها تكسر الصورة النمطية عن هُويَّة السوري العلوي مرادفةً لدعم النظام، وتتحدّى السرديات المتطرّفة الساعية الى تعريف الولاء الوطني على أسس طائفية.
ليست فدوى "العلوية" الوحيدة التي شاركت في الثورة السورية، بل انتمى إلى صفوفها ناشطون علويون، أفراداً لا من خلال مرجعيتهم الدينية طائفةً، كما طُلب منهم، في تغافلٍ عن طبيعة الاجتماع العلوي المتشكّل تاريخياً. ظُلم العلويون بالإصرار على معاملتهم طائفةً دينيةً تقليديةً تنتج تصوّرات جماعية مشتركة متماسكة، وظُلموا حين نظر سوريون إلى المنخرطين منهم في الثورة أفراداً لا يمثّلون الطائفة، رغم إصرارهم على محاسبتهم جماعياً.
تاريخياً، نال العلويون في أحسن الأحوال تسامحاً، وفي أسوأها اضطهاداً أو إهمالاً، ورسمت سلسلة فتاوى تكفّرهم نهج التعامل معهم. فتوى مفتي فلسطين، الحاج أمين الحسيني، التي أكّدت أنهم مسلمون، عرضت عليهم (1932) معاملةً متساويةً ضمن نسيج مجتمع وليد يشقّ طريقه نحو الاستقلال، لكنّها ظلّت من دون إقناع الأغلبية السُنّية بأن العلويين ليسوا "زنادقة". خضعت الطائفة العلوية في مسار متعرّج، لانقسامات عمودية وأفقية، فاخترقتها العشائرية. ومع إغلاق "الدعوة"، توضّح التمايز بين الديني والدنيوي، فبدت جماعةً علمانيةً (بالمعنى الأصلي للعلمانية)، فاحتكر "الإكليروس" أسرار العقيدة، ولم تُعطَ لأعضاء الجماعة (الذكور فقط) إلا وفق شروط، وتقلّص حضور الدين في الفضاء العام. ذرّرها حافظ الأسد، بإعادة تدوير نُخَبها في "البعث" والدولة، وتفريغ كفاءاتها لمصلحة الجيش والأمن، ونكّل بقاداتها التقليديين، وهمّش عائلاتها النافذة، ومنع انتقال الزعامة الروحية بالوراثة أو التلقّي، فأخضع "الإكليروس" للأجهزة الأمنية، مقدّماً نفسه زعيماً سياسياً، وروحياً عارفاً بالكلّيات وأسرار الطائفة الباطنية، لينتج عقيدةً علويةً أسدية، متمحورةً حول فكرة الاضطهاد السُنّي، وما قام عليها من سرديات المظلومية، فصار حامي الجماعة من "الوحش السُنّي". مجازر "الطليعة المقاتلة" بحقّ الطائفة جعلت العلويين (وأقلّيات أخرى) ترى في الأسد ضرورةً موضوعيةً للحماية والبقاء، فوظّف منهم آلاتٍ للانتقام والقتل تُوطّد أركان حكمه. تكرّر ذلك في ظلّ أسلمة "الربيع السوري"، وتكاثر فصائل الجهادية السلفية، واستعادة فتاوى تكفير العلويين.
كانت مشاركة العلويين طائفةً ضرباً من مستحيل، لا سيّما أنهم في صفوف الثورة تحدّروا من خلفيات فكرية يسارية (العمل الشيوعي، 23 شباط، الشيوعي - المكتب السياسي...)، ولم يدخلوا الثورة بمرجعياتهم الدينية، ولم يكونوا قادرين على جرّ الطائفة معهم إلى مشروعهم الثوري في ثورةٍ افترضوها مدنيةً لا دينيةً كما أرادها أصحاب السرديات الطائفية، الذين كانوا على استعداد للنظر إلى داعمي نظام الأسد من طوائف أخرى بوصفهم أفراداً مجرّدين من انتمائهم الطائفي. سقط احتمال انضمام العلويين طائفةً أمام خطاب الكراهية وفتاوى التكفير والإصرار على ربطهم عضوياً بالنظام، فبقي العلوي مداناً حتى تثبت براءته، بل كانت براءة الطائفة شرطاً لبراءته الشخصية.
لم تُخفِ السورية "العلوية" سمر يزبك إحساسها بالذنب تجاه عائلتها في الساحل السوري، الذين واجهوا بسبب مواقفها السياسية المعارضة للنظام ذُلّاً وإهانةً وطرداً من العمل، طوال سنوات الثورة، فإذا بهم محاصرون، ينتظرون مصيراً مجهولاً في خضمّ حمّام دم طائفي (كما كتبت في "فيسبوك" السبت الماضي). رأت سمر ("العربي الجديد"، 8/3/2025)، قبل ساعات من مجازر الساحل السوري، أن العلوي ظلّ "علامة مشحونة بالمعاني السياسية"، فرغم انضمام علويين إلى الثورة، لم يسقط "الوهم التصنيفي، بل طُلب منهم الاعتذار، وكأن الذات العلوية محكومةٌ مسبقاً بجُرمٍ أصلي لا فكاك منه"، وتحوّل العلويون بعد سقوط النظام إلى "الآخر" المرفوض داخل مشروع "التطهير الرمزي" للسردية الوطنية الجديدة. ليس المهم، كما تقول، البحث عن "حقيقة" العلويين، بل "مساءلة الخطابات التي تُنتجهم كياناً متجانساً، وتعيد تدويرهم داخل سرديات سياسية صلبة".
كأن الروائية السورية استشرفت ما كان غداً. نعم، من دون مساءلة تلك الخطابات، سنشهد جولات أخرى من القتل الطائفي في سورية الجديدة.

قراءة المقال بالكامل