تعرّض تراث غزة المعماري لهجمات مدمرة عدة، خلال حرب الإبادة التي استمرت أكثر من 400 يوم، تاركة آثاراً مدمرة ما زالت تؤثر بمختلف جوانب الحياة في القطاع. ورغم هذه التحديات الكبيرة، تحافظ غزة على جزء من تاريخها وتراثها، وهو ما تعمل على ترسيخه مؤسسة "رواق"، من خلال مشاريع الترميم التي أطلقتها منذ سنوات، مثل ترميم بيت السقا، وبيت الغصيني، ودير الخضر الأثري، وبيت الوحيدي.
أكدت منسقة البرنامج الثقافي في مؤسسة رواق، إسراء القاضي، أن المؤسسة تعمل بالتعاون مع العديد من المؤسسات المحلية والدولية لإعادة إعمار التراث الثقافي في غزة. وقد حددت المؤسسة مواقع استراتيجية للترميم، مثل سوق القيسارية، والجامع العمري الكبير، ودار فرح، ودار السقا، ومبنى بلدية غزة، التي تمثل جزءًا أساسيًا من هوية غزة وفلسطين وتاريخهما.
وفي إطار هذا العمل، قررت مؤسسة رواق إطلاق سلسلة من الندوات التي تهدف إلى توثيق التراث المعماري في غزة. وتوضح القاضي أن هذه الندوات لا تقتصر على عرض المشاريع الجارية فقط، بل تسلط الضوء على تاريخ هذه المباني وأثرها العميق في حياة الناس قبل الحرب وفي أثنائها وبعدها. فبينما تعرّض العديد من هذه المواقع للدمار، تحوّل بعضها إلى أماكن لإيواء النازحين، ما يعكس التفاعل العميق بين الناس وتلك المواقع التراثية التي تحمل جزءًا من قصصهم وحياتهم.
الندوة الأولى: دير القديس هيلاريون
بدأت سلسلة الندوات بمحاضرة حول "دير القديس هيلاريون/ تل أم عامر"، الذي يقع في النصيرات جنوبي غزة، ويعتبر شاهدًا فريدًا على تطور الحياة الرهبانية المسيحية في فلسطين خلال الفترة البيزنطية. الموقع الذي أُدرج أخيراً في قائمة التراث العالمي التابعة لـ"يونسكو"، يمثل إرثًا ثقافيًا وروحيًا عميقًا، ويعكس تأثير القديس هيلاريون في التقاليد الرهبانية في الشرق الأوسط. كذلك كان هذا الموقع عرضة للقصف خلال حرب الإبادة، ما أدى إلى تدمير جزئي له، وتحويله إلى ملجأ للنازحين. قدم هذه الندوة الدكتور أحمد الرجوب، المدير العام للتراث العالمي في وزارة السياحة والآثار في فلسطين.
الندوة الثانية: سوق القيسارية
كانت الندوة الثانية التي نظمتها "رواق" حول سوق القيسارية الذي يعود إلى الحقبة المملوكية في القرن الرابع عشر. يقع السوق وسط البلدة القديمة في غزة، بالقرب من "الجامع العمري الكبير"، وكان جزءًا من الرواق الجنوبي للجامع الذي بناه السلطان المملوكي محمد بن قلاوون. سلطت الندوة الضوء على أهمية السوق في حياة سكان غزة، وكيف أثر القصف خلال الحرب في بنائه، كذلك جرى التطرق إلى جهود إعادة ترميم السوق التي بدأت بعد وقف إطلاق النار، بالتعاون بين بلدية غزة ومؤسسة "رواق".
إبادة تراث غزة المعماري
تقول القاضي إن الحرب لم تكن فقط ضد البشر، بل كانت أيضًا هجومًا ممنهجًا على تراث غزة المعماري والحضاري في غزة. وأضافت أن "رواق" عملت، منذ بداية الحرب، على استعادة الذاكرة التاريخية لهذه المواقع الأثرية من خلال الأبحاث والمقابلات مع الناس المحليين، مع الحفاظ على الشكل المعماري الأصلي للمباني في أثناء الترميم.
ترى القاضي أن إعادة الترميم شكل من أشكال "الإبادة الثانية" التي تعرّض لها القطاع، وتوضح أن الوثائق والأبحاث التي جُمعت قبل الحرب وفي أثنائها وبعدها تساعد في الحفاظ على تاريخ تلك المواقع، بحيث لا يتغير شكلها في أثناء الترميم. وأكدت أهمية نشر هذه المعلومات عبر منصات التواصل الاجتماعي واليوتيوب لضمان وصولها إلى أكبر عدد من الناس، وإتاحة الفرصة للعالم للاطلاع على تاريخ غزة وأثر الحرب عليها.
حماية تراث غزة
تحدثت القاضي عن أهمية الحفاظ على تراث غزة المعماري بوصفه جزءاً من الهوية الفلسطينية، وأنه يجب على الجميع أن يدرك أن هذه المواقع التاريخية ليست مجرد حجارة، بل هي حكايات وأرواح تسرد قصص الناس وصمودهم عبر الزمن. وأضافت أن نشر هذه المواد وتوثيقها وإتاحة الفرصة أمام الجميع للوصول إليها، سيساعد في توعية الناس وتعريفهم بتاريخ هذه المواقع وأهميتها، حتى بعد التدمير الذي تعرضت له.
ومن المنتظر أن تعقد "رواق" ضمن ندواتها لاحقاً، ندوة بعنوان "الجامع العمري الكبير شاهداً على تاريخ غزة عبر العصور". ويعدّ الجامع العمري الكبير في المدينة القديمة بغزة من أقدم جوامع المدينة وأكبرها. تستعرض هذه الندوة الأسس المعمارية للجامع وتطور بنائه عبر العصور، مع التركيز على أهميته التاريخية والثقافية، ودوره البارز في الحياة الدينية والاجتماعية. كذلك تتناول الندوة الأضرار التي تعرّض لها الجامع خلال الحرب.
كذلك من المقرر أن تواصل "رواق" العمل على إعادة ترميم العديد من المواقع الأخرى في غزة، مثل الجامع العمري الكبير، وبيت الوحيدي، وبيت الغصين، ودار فرح، لتضمن إحياء هذا الموروث الثقافي والعماري الذي يمثل تاريخ غزة وفلسطين. وستستمر سلسلة الندوات لتغطية مختلف المواقع التراثية في القطاع، ويستمر نشر الندوات عبر منصات التواصل الاجتماعي لضمان وصول هذه المعرفة إلى جميع المهتمين والمختصين.
