السوريون بين خيار البقاء في الخارج ونداء الوطن

منذ ١ شهر ٦٢

شكّلت اللحظة التاريخية 8 ديسمبر/ كانون الأول 2024 منعطفاً تاريخياً فارقاً في حياة السوريين المغتربين لن ينسوه أبداً، حيث حملت معنيين بارزين. يتمثل الأول في سقوط النظام الذي طالما حرمهم من رؤية وطنهم وأجبرهم على التعامل مع تعقيدات الأوراق القانونية خلال سنوات الغربة القسرية. أما المعنى الثاني، فهو التساؤل المُلح: ماذا يحمل الغد؟ لا ريب أن هذه المفاجأة السارة غيّرت خطط الكثيرين من السوريين في مختلف أنحاء العالم.

اليوم، يقف عشرات الآلاف من اللاجئين والمغتربين أمام مفترق طرق حاسم: هل يبقون في الخارج، أم يتخذون قرار العودة إلى سورية للمساهمة في جهود إعادة البناء؟ على أن هذا القرار لا يقتصر تأثيره عليهم فقط، بل يمتد ليشمل الدول المضيفة التي قد تشهد تغيرات اقتصادية واجتماعية، نتيجة عودة قسم من اللاجئين إلى وطنهم.

السوريون في الخارج: إلى سورية عدْ

عاش السوريون سنوات الصراع منذ عام 2011 حتى 2024 وهم يطمحون إلى مغادرة وطنهم، بحثاً عن الأمان والاستقرار. كان الحلم الأكبر لمعظم الشباب السوريين هو الحصول على تأشيرة سفر، أو إيجاد طريقة للهروب من واقع قاس مليء بالخوف والفقر والبطالة. تحمّل الآباء أعباءً نفسية كبيرة لحماية أبنائهم من الالتحاق بجيش النظام، أو من البقاء في بلد مثقل بمخدر الكبتاغون والعقوبات والفساد. اليوم، وبعد سقوط النظام بات هذا كله جزءاً من الماضي، ليبرز السؤال "هل ستعود إلى سورية؟" بوصفه سؤالاً محورياً بين السوريين في كل مكان.

طوال سنوات الصراع، عانت سورية نزيف أدمغة غير مسبوق، حيث هاجر الآلاف من الشباب أصحاب الكفاءات والشهادات والعمّال في مختلف التخصصات، وفقدت البلاد عشرات الآلاف من الكوادر المهنية والعلمية. تشير التقديرات إلى أن هناك 6.7 ملايين سوري لاجئ خارج سورية موزعين بين دول الجوار وصولاً إلى أبعد نقطة في العالم. عودة هؤلاء تشكّل فرصة ذهبية لتحقيق نقلة نوعية في إعادة الإعمار والتنمية الاقتصادية.

اكتسب السوريون في الخارج خبرات هائلة في بلدان المهجر واللجوء، خاصة في مجالات الهندسة والطب والتعليم والصناعات التقنية، تشكل هذه الخبرات رصيداً لا يُقدر بثمن لإعادة بناء سورية، وتسد فجوات هائلة في رأس المال البشري الذي دمّرته سنوات الحرب.

يعمل عشرات الآلاف من السوريين في دول الجوار مثل الأردن ولبنان وتركيا والعراق، في قطاعات حيوية تشمل الزراعة والبناء والخدمات. ومن شأن عودتهم إلى سورية تسريع وتيرة التعافي الاقتصادي، وتحقيق الاستقرار في سوق العمل.

إلى جانب الكفاءات المهنية، يعد رجال الأعمال السوريون في الخارج ركيزة أساسية لتحفيز الاستثمار الداخلي، العديد منهم يمتلكون ملاءات مالية كبيرة تقدر بمليارات الدولارات، في دول الخليج العربي وأوروبا وأميركا. هؤلاء المستثمرون يمكنهم أن يكونوا قاطرة لإعادة تنشيط الاقتصاد السوري. كما توسعت أعمال مئات الصناعيين السوريين في بلدان مثل تركيا ومصر والأردن، لتصل استثمارات السوريين في تركيا وحدها إلى 10 مليارات دولار، تشكّل 1.96% من إجمالي الناتج المحلي التركي، وفقاً لتقرير غرفة تجارة إسطنبول، مما يعكس الإمكانات الاقتصادية الكبيرة التي يمكن توجيهها نحو إعادة الإعمار.

طبعاً، لا يمكن إنكار التحديات الكبيرة التي قد تواجه السوريين عند عودتهم، فبعد عشر سنوات أو أكثر في بلدان الاغتراب واللجوء، تعلّموا لغات جديدة، وعايشوا مستويات متقدمة من الخدمات، وقد يجدون صعوبة في التكيف مع واقع بلد توقف فيه الزمن لأكثر من عقد. كما أن الأطفال الذين بالكاد يتحدثون اللغة العربية، قد يحتاجون إلى دعم لغوي للاندماج مجدداً للعودة إلى المدارس العربية.

مهما كانت التحديات، تبقى عودة السوريين في الخارج إلى وطنهم فرصة استثنائية للنهوض بسورية من جديد، وجعلها قادرة على مواكبة المستقبل بثقة وإصرار.

الأثر الاقتصادي على دول اللجوء

في الوقت الذي ستستعيد فيه سورية بعضاً من طاقاتها البشرية العائدة، ستواجه دول اللجوء تحديات اقتصادية واجتماعية نتيجة الفراغ الذي ستتركه مغادرة آلاف السوريين ممن كانوا يشكلون جزءاً مهماً من القوى العاملة. تشير الإحصائيات إلى بلوغ عدد العمال السوريين المسجلين رسمياً نحو 100 ألف عامل في سوق العمل التركي، ويصل عدد الذين يعملون بطرق غير نظامية إلى 500 ألف عامل، معظمهم يتركزون في قطاعات الزراعة والصناعة.

في لبنان والأردن وبلدان أوروبية عديدة، يشكّل السوريون نسبة لا يُستهان بها من القوى العاملة في المناطق الريفية، مما ساهم في دعم الإنتاج المحلي في الزراعة والبناء بشكل كبير.

قد تؤدي مغادرة هذه العمالة إلى نقص حاد في القوى العاملة، خاصة في القطاعات التي تعتمد بشكل كبير على المهارات والخبرات السورية، ما ينعكس سلباً على الإنتاجية ويؤدي إلى ارتفاع تكاليف العمالة المحلية في تلك البلدان. وقد يدفع هذا الوضع بعض المصانع التركية للتفكير جدياً لنقل أنشطتها إلى سورية للاستفادة من انخفاض تكاليف العمالة هناك.

أما في أوروبا، فإن الوضع أكثر تعقيداً، وفقاً لمعهد الاقتصاد الألماني هناك حوالي 80 ألف سوري يعملون في ألمانيا، أغلبهم في مهن تشهد نقصاً في الكوادر، مما ساعد على سد فجوات حيوية في سوق العمل الألماني. يبرز من بينهم 5300 طبيب سوري يعززون قطاع الرعاية الصحية. وفي هولندا، يشير تقرير إلى وجود 3310 رواد أعمال سوريين في عام 2023، مما يجعل السوريين ثاني أكبر مجموعة بين رواد الأعمال الأجانب بعد الأتراك.

لم يقتصر دور السوريين في أوروبا على العمل فحسب، بل يمثلون أيضاً شريحة مهمة من الطلاب الجامعيين. يدرس الآلاف منهم مجالات حيوية مثل الطب والهندسة وعلوم الكمبيوتر والاقتصاد، مما يساهم في رفع مستويات المهارات الأكاديمية والمهنية في الدول الأوروبية. إضافة إلى ذلك، يساهمون بشكل كبير في الأنظمة الضريبية والاجتماعية، مما يعزز الاقتصادات الأوروبية، من خلال زيادة الاستهلاك المحلي وتنشيط الأسواق.

وقد يسبب غياب السوريين عن تلك الدول تراجعاً ملموساً في النشاط الاقتصادي، خاصة في القطاعات التي اعتمدت على استئجار المساكن والأنشطة التجارية والخدمات. دول مثل تركيا ولبنان ستواجه تحديات حقيقية في الحفاظ على زخم اقتصادي كانت العمالة السورية جزءاً أساسياً فيه.

لا بدّ من التأكيد على أن نجاح عملية عودة اللاجئين السوريين إلى وطنهم يعتمد على مجموعة من العوامل الحاسمة. من بينها ضرورة توفير بيئة سياسية مستقرة وآمنة تضمن حقوق العائدين، وإشراكهم في التخطيط واتخاذ القرارات المتعلقة بإعادة الإعمار والتنمية، هذا النهج التشاركي يُمكن أن يُعزز من الشعور بالانتماء والمسؤولية بين العائدين، ويُساعد على تحقيق استقرار اجتماعي طويل الأمد.

كما يتطلب الأمر من الحكومة السورية المستقبلية تبنّي سياسات اقتصادية مرنة، وتعزيز المشاريع الصغيرة والمتوسطة التي تُعتبر رافعة للاقتصاد المحلي.

لم يكن السوريون يتخيلون أن يأتي يوم يرون فيه بلادهم بدون بشار الأسد، بسبب هول ما تعرضوا له من عنف وانتهاكات ومجازر طاولت البشر والحجر على حد سواء. فقد شهدوا صدمة العجز الدولي عن حمايتهم، وعايشوا خيبة أمل كبيرة من مجتمع دولي اكتفى بموقف المتفرج، بل كاد يمضي قدماً نحو تعويم الأسد والاعتراف بشرعيته.

في ظل هذا اليأس، حمل السوريون آمالهم وهاجروا إلى كل بلدان العالم، بحثاً عن حياة آمنة ومستقبل أفضل لهم ولأبنائهم. لكن في 8 ديسمبر 2024، تغيّر الواقع فجأة، وتحولت أحلام الاستقرار والحياة الجديدة مرة أخرى باتجاه سورية، نحو وطنهم الذي أجبروا على مغادرته.

اليوم، يطرح هذا التحول سؤالاً جوهرياً: هل ستُتاح الفرصة للسوريين للعودة والمشاركة في إعادة بناء وطنهم، أم ستعرقل خطوات الاستقرار السياسي القادمة هذا الحلم، أم ستسعى حكومات الدول المضيفة إلى التمسك بهم خشية حدوث آثار اقتصادية واجتماعية سلبية نتيجة مغادرتهم؟

وبين الأمل في عودة كريمة وآمنة، والتحديات الاقتصادية التي تواجهها دول اللجوء، يبقى مصير الملايين من السوريين معلقاً بمدى استعداد الأطراف المختلفة لتسهيل هذه العودة، وجعلها خطوة نحو إعادة الحياة لسورية.

قراءة المقال بالكامل