"نداء الأعماق"... إعادة تدوير الأساطير الغربية

منذ ١ يوم ١٣

قد يكون قاع المحيط بالنسبة لأفلام الأنمي هو المكان الأفضل لتذوب فيه حدود الواقع والخيال. من هذا القاع، يطفو فيلم "نداء الأعماق" (The Witcher: Sirens of the Deep) الذي تبثه منصة نتفليكس. في هذه الأعماق، نجد أحلاماً كابوسيّة على شكل مشاهد يتكون منها الفيلم، وفيه لا تُحكى القصص بسلاسة، بل تُنتزع من أحشاء الأساطير.

العمل يعيد تعريف الأسطورة الأوروبية بوصفها امتيازاً ثقافيّاً خاصاً، ذلك عبر عوالم الوسائط المتعددة. المخرج كانغ هي تشول ابن الثقافة الكوريّة التي تعيد تدوير الأساطير الغربية بذكاء، يحوّل التضحيات البسيطة إلى ملحمةٍ بصرية تذوب فيها الحدود، والسيف بالنسبة له ليس أداة للقتال فحسب، بل لسان للعدالة في عالم يبحث عن الضوء في آخر النفق. الفيلم، بصفته كائناً هجيناً، يحمل جينات الكاتب البولندي سابكوفسكي الأدبية والطفرات البصريّة في ألعاب الفيديو وتقنيات السرد السينمائي العالمي، ويتحول إلى منتجٍ استهلاكي مُعولم، بدل أن يغرق في أسطورة شرقية/أوروبية. سبق أن أخرج كانغ هي تشول فيلم Nightmare of the Wolf بناءً على سلسلة القصص البولنديّة نفسها، وحاول أن يقدمه بوصفه مرآة مشروخة تعكس صراع الهوية بين الأصالة والحداثة.

المشاهد الأولى في العمل الجديد غارقة في لوحةٍ زرقاء قاتمة والقمر يتدلى كعين مغمضة فوق أمواجٍ البحر، وجميعهم تحت وطأة صراعٍ قديم مجهول. الاستوديو الكوري Studio Mir يصبغ الفيلم بجماليات هجينة، كالدماء القرمزية التي تنثر كالورود على الثلوج في الرسوم المتحركة الأوروبية، وحركات سلسة كأسلوب الأنمي الياباني، وفي طياتها ثقل الأساطير السلافية. العمل مبني على القصة القصيرة A Little Sacrifice القائمة على ثلاثة أساسات سرديّة؛ الأولى حرب الموارد، والثانية قصة الحب المحرم بين الأميرة حورية البحر شيناز والأمير البشري أغلوفال، والأخيرة والأهم الصراع الداخلي لبطل العمل غيرالت مع أشباح ماضيه.

الفيلم يفقد السيطرة على الأساس السردي الأول والثاني، وتترنح الحبكة تحت وطأة التبسيط، بينما الصراع البيئي يتحول إلى خطابٍ أخلاقي مباشر، كأن المخرج يصرخ في وجه المشاهد: "انظروا! نحن ندمر الكوكب". الصراع المركزي بين البشر وأهل البحر يُقرأ استعارةً ما بعد استعمارية، حيث اللؤلؤ المسروق يشي بألماس أفريقيا، والحوريات المُهجَّنة بين الإنسان والوحش ترمز إلى الهويات المطموسة في عصر العولمة.

يخون الفيلم توقعات المشاهد ويتحول إلى استعارة الصراع بين الخير والشر، فالشرير النمطي الملك (والد أغلوفال) هو مجرد دمية تُحركها الأطماع. تصميم حوريات البحر ومملكتهن ليس مستوحى من الفولكلور السلافي، بل من الكايجو الياباني، أي وحوش الأنمي ذات الأعين الواسعة والأجساد المرنة التي تتناقض مع جسد البطل الأوروبي المنحوت كالرخام، حتى جاسكير، وهو مرافق البطل الذي من المفترض أن يكون صوت السخرية واللامبالاة، يُختزل إلى مهرجٍ يردد النكات المبتذلة. يبدو المخرج مهووساً بجسد بطل "نداء الأعماق" ويعامله باعتباره كياناً منفصلاً ومتنقلاً في كل الأفلام التي بنيت على هذه السلسلة من القصص. غيرالت هنا ليس البطل الخارق فحسب، بل كائنٌ فريد، عضلاته مثاليّة، وشعرُه البلاتيني يبدو كالشلال. هذا التصوير قد يكون إعادة تعريف للجسد السلافي الذي يُصور عادةً تمثالاً من الرخام عبر عدسةٍ آسيوية ترى الجسد وعاءً للصراعات الروحيّة، الذكريات العابرة لعلاقة غيرالت بالساحرة ينيفر تُصوَّر أحلاماً تفصله عن عالمه الواقعي، وتُقدِّم لمحة عن فيلم كان يمكن أن يكون أجرأ.

في المقابل، ثمة كثير من اللحظات التي يُضيئها إبداع الاستديو، كمشهد القتال تحت الماء، حيث يتحول غيرالت إلى راقص باليه مسلح بسيفين، وتذوب فيه الرسوم المتحركة مع الإيقاع الموسيقي كأنها سيمفونية. المشاهد الصامتة هي الأقوى، كانكماشة جفن غيرالت وارتعاشة ذيل شيناز، كلها إشاراتٌ سيميائية تعبر عما عجزت عنه الحوارات.

في النهاية، فيلم "نداء الأعماق" مثالٌ على الفجوات بين الأدب والسينما، وبين الثقافة المحلية والسوق العالميّة، وبين العمق السرديّ والإبهار البصريّ. المشهد الأخير، إذ يغرق غيرالت في صمتٍ أزرق، بينما تتساقط جثث الأبرياء من حوله، يشبه غرق الأسطورة في السوق التجاريّة كـ"تضحية صغيرة" في سبيل الشهرة والنجاح.

قراءة المقال بالكامل