يبرز ملف القضية الفلسطينية في مقدمة التحديات التي تواجهها مصر، لا سيما في ظل الضغوط التي تتعرض لها القاهرة للقبول بتهجير الفلسطينيين من قطاع غزة إلى سيناء، وسط ضغوط إقليمية وأخرى داخلية تتعلق بالأوضاع الأمنية في القارة الأفريقية والأزمة الاقتصادية في البلاد. وبينما يتصدر الملف الفلسطيني هذه التحديات، كشفت مصادر مطلعة لـ"العربي الجديد" أن الرئيس المصري عبد الفتاح السيسي أصدر توجيهات مباشرة إلى الأجهزة السيادية، وعلى رأسها جهاز المخابرات العامة ووزارة الخارجية، من أجل وضع خطة متكاملة للتعامل مع الأزمة المتصاعدة في غزة وتحدياتها، إذ تعتبرها القاهرة تهديداً مباشراً وخطيراً للأمن القومي المصري.
في كلمته خلال اجتماع لجنة العلاقات الخارجية بمجلس النواب، الاثنين الماضي، أكد وزير الخارجية المصري، بدر عبد العاطي، أن بلاده تواجه في الوقت الراهن تحديات غير مسبوقة تهدد أمنها القومي واستقرارها الداخلي. وقال إن مصر لم تشهد في تاريخها القديم أو الحديث مثل هذا العدد من التحديات المتزامنة، والتي تؤثر بشكل مباشر على مصالحها الاستراتيجية. وحول الأزمة المتصاعدة في غزة وتحدياتها، شدد عبد العاطي على أن مصر تعتبر هذا الملف "خطاً أحمر"، وأنها لن تسمح بتمرير أي مخطط قد يؤدي إلى تصفية القضية الفلسطينية عبر تهجير سكان القطاع، وهي تعمل على حشد الدعم العربي والدولي لمواجهة هذه التحديات.
وأشار إلى جهود بلاده في الترويج لخطة إعادة إعمار قطاع غزة من دون تهجير الغزيين، مدتها خمس سنوات وبتكلفة تقريبية تبلغ 53 مليار دولار، والتي "أصبحت مشروعاً عربياً إسلامياً، بعد تبنيها من قبل الجامعة العربية في قمتها الاستثنائية في القاهرة ومن قبل منظمة التعاون الإسلامي، الشهر الحالي. في هذا السياق، قال السيسي، خلال كلمته في احتفالية يوم الشهيد، الثلاثاء الماضي، إن مصر أوضحت منذ بداية الأزمة المتصاعدة في غزة "موقفاً ثابتاً راسخاً، بأنه لا حل لهذه القضية (الفلسطينية)، إلا من خلال العمل على تحقيق العدل، وإقامة الدولة الفلسطينية، وعدم القبول بتهجير الشعب الفلسطيني من أرضه، تحت أي مسمى".
شملت تكليفات السيسي تعزيز الإجراءات الأمنية على الحدود المصرية مع القطاع لمنع أي محاولات تسلل أو تهريب أسلحة
التعامل مع الأزمة المتصاعدة في غزة
تأتي توجيهات السيسي الجديدة، في ظل التدهور الحاد في الأوضاع الإنسانية داخل القطاع، واستمرار التصعيد العسكري الإسرائيلي، ما يفرض على مصر، أحد أطراف الوساطة في مفاوضات وقف إطلاق النار في القطاع إلى جانب قطر والولايات المتحدة، مسؤولية التعامل مع تداعيات هذا الوضع على المستويات الأمنية والدبلوماسية والاقتصادية. ووفقاً لمصادر "العربي الجديد"، فقد شملت تكليفات السيسي للأجهزة المعنية تعزيز الإجراءات الأمنية على الحدود المصرية مع قطاع غزة، لا سيما في رفح الحدودية، لمنع أي محاولات تسلل أو تهريب أسلحة قد تؤثر على استقرار سيناء، ما دفع السلطات المصرية إلى تكثيف عمليات المراقبة والتفتيش. كما تضمنت التوجيهات رفع مستوى التنسيق الأمني مع الجانب الإسرائيلي لضبط أي تحركات قد تشكل خطراً على الحدود المصرية.
على الصعيد الدبلوماسي، كلف الرئيس المصري وزارة الخارجية بتكثيف المشاورات مع الأطراف الدولية الفاعلة، وفي مقدمتها الولايات المتحدة، والاتحاد الأوروبي، وروسيا، لضمان تقديم دعم سياسي لمصر باعتبارها وسيطاً رئيسياً في الأزمة المتصاعدة في غزة. إلى جانب الضغط على إسرائيل دبلوماسياً لوقف العمليات العسكرية وفتح مسارات آمنة لإدخال المساعدات الإنسانية إلى القطاع غزة، بالإضافة إلى التحرك العربي من خلال اتصالات مكثفة مع دول الخليج والأردن لضمان توحيد الموقف العربي خلف الرؤية المصرية للحل. وعلى مستوى إعادة الإعمار، فقد وجه السيسي جهاز المخابرات العامة بإعداد خطة تفصيلية لإعادة إعمار قطاع غزة، على أن تشمل مشروعات إسكانية وتنموية تهدف إلى استقرار السكان ومنع أي محاولة لتهجيرهم. كما تقرر تشكيل فريق تنسيقي مشترك بين المخابرات ووزارتي الخارجية والإسكان لضمان تنفيذ المشروعات بسرعة وفعالية. وتسعى مصر إلى تأمين تمويل خليجي لهذه المشاريع، إذ تجرى حالياً مفاوضات مع الإمارات والسعودية وقطر للمساهمة في تغطية التكاليف.
إلى جانب ذلك، تضمنت التكليفات الرئاسية إطلاق حملة إعلامية ودبلوماسية واسعة النطاق لحشد الدعم الدولي للخطة المصرية، من خلال إبراز جهود القاهرة في دعم القضية الفلسطينية وإعادة الإعمار. وقد كُلّفت المؤسسات الإعلامية المصرية بالعمل على تقديم الرؤية المصرية كبديل واقعي وفعال للطروحات الغربية، مثل الخطة الأميركية التي اقترحت وضع غزة تحت إشراف دولي وتحويلها إلى منطقة سياحية (مشروع الرئيس الأميركي دونالد ترامب لتحويل القطاع إلى "ريفييرا الشرق الأوسط" وتهجير الغزيين). كما بدأت القاهرة في التواصل مع الفصائل الفلسطينية، بما في ذلك حركة حماس والسلطة الفلسطينية، لضمان توافق داخلي فلسطيني يدعم الخطة المصرية.
تهديدات أمنية وضغوط
ترى مصر أن خطورة الوضع في القطاع لا تقتصر على المعاناة الإنسانية، بل تمتد إلى تهديدات أمنية مباشرة لمصر، في ظل مخاوف من موجات نزوح فلسطينية جماعية نحو الأراضي المصرية، وهو ما تعتبره القاهرة خطاً أحمر لا يمكن تجاوزه. كما تخشى السلطات المصرية من أن يؤدي الفراغ الأمني في قطاع غزة إلى تصاعد نفوذ الجماعات المتطرفة، وهو ما قد يؤثر بشكل سلبي على استقرار سيناء والمنطقة الحدودية.
ورغم الترحيب العربي بالخطة المصرية، إلا أن هناك تحديات وضغوطاً من بعض القوى الدولية. فالولايات المتحدة تدعم الدور المصري، لكنها تسعى لربطه بشرط نزع سلاح الفصائل الفلسطينية، وهو ما ترفضه حركة حماس. أما إسرائيل، فتعارض أي تحرك مصري قد يعزز نفوذ "حماس"، وتصر على الحصول على ضمانات أمنية صارمة قبل البدء في أي مشاريع إعادة إعمار. من جهتها، تبدي بعض الدول الخليجية دعماً مالياً للمبادرة المصرية، لكنها ترغب في فرض آليات رقابة دولية على تنفيذ المشروعات لضمان الشفافية والكفاءة، بينما دول خليجية أخرى تشترط نزع سلاح "حماس" قبل أن تقدم أي دعم سياسي ومالي للخطة المصرية. ويؤكد خبراء أن هذه الأزمة المتصاعدة في غزة لا يمكن فصلها عن الموقف الإسرائيلي والأميركي، إذ تتبنى إسرائيل سياسة الضغط المتزايد لتفريغ القطاع من سكانه بدعوى الحلول الأمنية، وهو ما يضع مصر في مواجهة دبلوماسية صعبة.
وبحسب مراقبين، تأتي هذه الضغوط في وقت تعاني فيه مصر من غياب دعم عربي قوي، لا سيما من السعودية والإمارات اللتين لم تشاركا في القمة العربية الأخيرة على مستوى ولي العهد بالنسبة إلى الرياض ورئيس الدولة بالنسبة إلى أبو ظبي، ما يثير تساؤلات حول مدى قدرة مصر على التصدي لهذا التحدي بمفردها، في ظل غياب إجماع عربي واضح بشأن سبل التعامل مع التصعيد الإسرائيلي في غزة. كما أن ضعف التضامن العربي يعكس تحولاً في أولويات بعض الدول الخليجية، التي تولي اهتماماً أكبر بعلاقاتها مع إسرائيل، ضمن مساعيها لتعزيز مصالحها الاقتصادية والأمنية. هذا التوجه يضع مصر في موقف معقد، إذ تحتاج إلى إعادة ضبط سياستها الإقليمية لضمان الحد الأدنى من الدعم العربي في قضاياها الاستراتيجية.
وبالتوازي مع التحديات السياسية، تعاني مصر من أزمة اقتصادية حادة، تتجلى في ارتفاع الديون الخارجية وتراجع الاحتياطيات النقدية، إذ تواجه البلاد صعوبات في جذب الاستثمارات الأجنبية بسبب حالة عدم الاستقرار الإقليمي، إلى جانب تداعيات الأوضاع المالية العالمية. وفي هذا السياق، يمثل الضغط الاقتصادي تحدياً إضافياً للموقف المصري في القضايا الإقليمية، إذ إن اعتماد القاهرة على المساعدات الدولية والتمويلات الخليجية قد يحدّ من هامش المناورة السياسية، خصوصاً في ما يتعلق بالملف الفلسطيني والعلاقة مع إسرائيل.
تضاف إلى أزمات مصر تحديات الأوضاع في السودان وليبيا وسد النهضة الإثيوبي
تهديدات خارجية
إلى جانب الأزمة المتصاعدة في غزة الأزمات الداخلية، التي تعمل الإدارة المصرية على معالجتها، يؤكد دبلوماسيون تحدثوا لـ"العربي الجديد"، أن مصر تواجه تهديدات مباشرة من الاضطرابات في السودان وليبيا. فالحرب المستمرة في السودان بين الجيش وقوات الدعم السريع تهدد بامتداد الفوضى إلى الحدود المصرية، ما يفرض تحديات أمنية وإنسانية معقدة. أما في ليبيا، فالوضع غير المستقر ووجود مليشيات مسلحة وتنظيمات متطرفة يمثل تهديداً مباشراً لأمن مصر من الجهة الغربية، ما يستلزم جهوداً دبلوماسية وأمنية مكثفة للحفاظ على استقرار الحدود وتأمين المصالح المصرية.
ويشير هؤلاء الدبلوماسيون إلى أنه على مستوى القرن الأفريقي، لا تزال أزمة سد النهضة الإثيوبي تشكل مصدر قلق رئيسي لمصر، إذ تؤثر على مواردها المائية وتضع ضغطاً إضافياً على جهودها الدبلوماسية لضمان حقوقها في مياه النيل. ومن الملاحظ أن الولايات المتحدة وإسرائيل تلعبان دوراً في المعادلة الإثيوبية، إذ تسعى تل أبيب لتعزيز نفوذها في المنطقة، وهو ما قد يؤثر سلباً على المصالح المصرية. رغم ذلك فإن استمرار الأزمات دون حلول جذرية يضع مصر أمام اختبار صعب، إذ تحتاج إلى دعم حقيقي من حلفائها الإقليميين والدوليين، فضلًا عن تبني استراتيجيات اقتصادية وأمنية أكثر فعالية لمواجهة هذه التهديدات.
