الضفة الغربية... ماذا يبيت الاحتلال لها؟

منذ ٢ شهور ٣٩

منذ بدء دخول اتفاق وقف إطلاق النار في قطاع غزّة حيز التنفيذ، في 19/1/2025، اتجهت الأنظار أكثر فأكثر نحو الضفة الغربية، بغرض الاستدلال على ما تبيته الحكومة الإسرائيلية حيالها، في ضوء ما لديها من مخططات استيطان وضم منذ تشكيلها في نهاية عام 2022 (كما سنشرح في سياق لاحق) من جهة، وفي ظل مستجدات مترتبة على اتفاق وقف إطلاق النار في قطاع غزة من جهة أخرى موازية ومكملة. ومهما تكن مستجدات اتفاق وقف إطلاق النار في غزة، لا بُد من أن نشير إلى ما يلي:

أولاً: تضمنَ الاتفاق الإفراج عن مئات الأسرى الفلسطينيين من السجون الإسرائيلية إلى أراضي الضفة الغربية والقدس الشرقية، فضلاً عن فرض القوات الإسرائيلية تشديداً أمنياً في الضفة، بحجة ضبط عملية الإفراج عن الأسرى الفلسطينيين، ومنع أي مظاهر للاحتفال علنا، كما شددت المؤسسة الأمنية الإسرائيلية على أنها ستضاعف قوات الجيش المرابطة في الضفة، وستكثف عمل جهاز الاستخبارات، وسط مخاوف بأن إتمام صفقة تبادل الأسرى سيزيد من حضور حركة حماس في الضفة الغربية، ما ينذر بـ"زيادة التوترات الأمنية" (أعلن عند كتابة هذه السطور عن نقل ألوية ووحدات نوعية من الجيش الإسرائيلي إلى الضفة الغربية، من أجل ما نُعت بـ"تدمير البنية التحتية لحماس". وتزامنا مع ذلك قال رئيس هيئة الأركان العامة للجيش الإسرائيلي، الجنرال هيرتسي هليفي، إن على الجيش أن يكون جاهزا لعمليات كبيرة في الضفة الغربية في الأيام المقبلة، من أجل استباق المقاومين، والقبض عليهم قبل تنفيذ عمليات المقاومة. وفي إثر تصريحاته هذه، أعلن الجيش الإسرائيلي بالتعاون مع جهاز الأمن العام "الشاباك"، وحرس الحدود عن بدء عملية عسكرية واسعة النطاق في مدينة جنين، أطلق عليها اسم "السور الحديدي"، تهدف إلى "الحفاظ على حرية حركة الجيش في الضفة الغربية، وتدمير البنية التحتية للإرهاب، وإزالة التهديدات الوشيكة"، بموجب ما أكدته قيادة الجيش والمؤسسة الأمنية الإسرائيلية).

ثانياً: بموجب ما تؤكده جل التحليلات في إسرائيل؛ فإن اتفاق وقف إطلاق النار الحالي يشبه كثيرا الاتفاق الذي اقترحه رئيس الحكومة الإسرائيلية، بنيامين نتنياهو، على الرئيس الأميركي السابق جو بايدن في مايو/أيّار 2024، غير أن نتنياهو تراجع عنه حينها بسبب تهديدات الوزيرين اليمينيين المتطرفين، إيتمار بن غفير وبتسلئيل سموتريتش، بإسقاط حكومته، وبرزت في الاتفاق "تنازلات" تعهد نتنياهو في السابق بألا يقدمها. ووفقا لبعض المحللين فإن ما جعل اتّفاق أيّار 2024 المرفوض في حينه مقبولا الآن هو وجود الرئيس الأميركي دونالد ترامب، الذي طلب من نتنياهو، منذ فوزه في انتخابات الرئاسة الأميركية، إنهاء مفاوضات إطلاق المخطوفين الإسرائيليين، والحرب في غزة قبل حفل تنصيبه ودخوله البيت الأبيض في 20/1/2025. ومثلما نُشر في إسرائيل، شرح نتنياهو لبن غفير وسموتريتش أنه لا مفر، وعليهم الموافقة على ما يريده ترامب، من أجل الحصول منه على مواقف مؤيدة إزاء موضوعات أُخرى، كموضوع الضفة الغربية.

في الوقت الذي يراقب سكان إسرائيل تطورات الحرب في قطاع غزة، تقودنا حكومة البلد، بصمت وإصرار، نحو الهاوية في إحدى الجبهات التي يقل الحديث عنها، جبهة الضفة الغربية

بالتوازي مع هذين المستجدين، اللذين من شأنهما ترجيح التقدير القائل بأن الضفة الغربية هدف الحكومة الإسرائيلية على نحو تصعيدي أكثر مما كانت الحال عليه من قبل، نلحظ وقائع متراكمة تُشير إلى أن استهداف الضفة الغربية كان ويبقى بندا مركزيا في أجندة الحكومة الحالية، وسنتوقف بالتفصيل عند بعض هذه الوقائع، لفهم ما تبيته حكومة الاحتلال الحالية في حال استمرار بقائها:

أولاً: أكد تقرير نشرته صحيفة "يديعوت أحرونوت" في الآونة الأخيرة، تحت عنوان "استيطان في مسار سريع: أسلوب سموتريتش لتسريع وتيرة البناء في أراضي الضفة الغربية"، أنه منذ تولي الحكومة الإسرائيلية الحالية مقاليد الحُكم في نهاية عام 2022، تشهد الضفة الغربية أكبر حركة استيطان كولونيالي فيها منذ بدايات الاستيطان فيها، وانطلاق حركة "غوش إيمونيم" عام 1974.

وفقاً للتقرير؛ منذ بداية ديسمبر/كانون الأول الماضي، يجري على نحو أسبوعي المصادقة النهائية على مخططات إقامة عشرات ومئات الوحدات السكنية في مستوطنات الضفة، بغية الانتقال إلى مرحلة التنفيذ. وتعمل مديرية خاصة، أنشأها وزير المالية الإسرائيلي، سموتريتش، الذي هو وزير ثان في وزارة الأمن الإسرائيلية، أنيطت بها مهمة المصادقة على هذه المخططات، وتتولى المسؤولية عن البناء في المستوطنات، وعلى تأسيس جهاز خاص يصدر رخص بناء بوتيرة أسبوعية، في حين كان يستغرق استصدار رخص كهذه أشهرا طويلة.

كما يكشف التقرير ذاته عن أنه خلال الأسابيع الستة التي سبقت النشر، تم الدفع قدما بخطط إقامة 2377 وحدة سكنية جديدة في مستوطنات الأراضي المحتلة منذ 1967، من جانب "المجلس الأعلى للتخطيط والبناء في يهودا والسامرة (الضفة الغربية)".

ثانياً: منذ تأدية الحكومة الإسرائيلية الحالية (الحكومة الـ37) اليمين الدستورية في أواخر ديسمبر 2022، وإلى حين "طوفان الأقصى" في 7/10/2023، وبداية حرب الإبادة الجماعية في قطاع غزة تركز النقاش والخطاب العام في إسرائيل حول ما عرف باسم خطة "الإصلاحات القانونية"، التي روجت لها الحكومة، والتي اعتبرتها المعارضة انقلاب قانونيا. لكن وإلى جانب ذلك أكدت منظمات حقوقية إسرائيلية أنه كان يجري أيضا ما وصفته بأنه "انقلاب صامت آخر"، هو ضم مناطق من الأراضي الفلسطينية المحتلة منذ 1967، وهو "الانقلاب الهادف إلى تغيير طابع السيطرة الإسرائيلية على الضفة الغربية"، كما جاء في تقرير مشترك صدر في يوليو/تموز 2024، عن أربع جمعيات حقوقية إسرائيلية، وتمحور حول تفصيل التغييرات الهيكلية والقانونية وكيف تُترجم ميدانيا.

شدد التقرير على أن الحكومة الإسرائيلية تعمل بطريقة منهجية ومُنظمة من أجل تنفيذ استراتيجية مسبقة التصميم لتحقيق رؤية سياسية، تتمثل في فرض السيادة الإسرائيلية الكاملة على الضفة الغربية، أي ضمها، إلى جانب إنشاء واقع الأبارتايد، الذي يرسخ التفوق اليهودي، ويدفع الفلسطينيين القاطنين في المنطقة صوب حيز جغرافي محدود ومقلص قدر الإمكان.

أشار التقرير أيضاً إلى أن خطوات حكومية عديدة تغير وجه الضفة الغربية، وهيكل السيطرة الاسرائيلية فيها، في السياق ذاته، ذكرت الجمعيات الخطوات التالية: تعيين وزير المالية بتسلئيل سموتريش وزيرا إضافيا في وزارة الأمن، ونقل صلاحيات واسعة إليه من قيادة الجيش الإسرائيلي؛ تخصيص ميزانيات ضخمة لتوسيع المستوطنات، وتحسين البنية التحتية وجودة الحياة؛ شرعنة البؤر الاستيطانية العشوائية؛ الإعلان عن تخصيص أراضي دولة ومحميات طبيعية لتوسعة المستوطنات؛ غض الطرف عن عنف المستوطنين، وعدم إنفاذ القانون؛ إساءة معاملة مجتمعات وجماعات فلسطينية، ما يؤدي ويدفع إلى تهجيرهم قسرا من منازلهم.

يشير التعيين إلى الاتجاه الذي يتطلع إليه نتنياهو، وهو اعتراف أميركي بضم المستوطنات في الضفة

نجد في خلاصة التقرير: "تنزع الحكومة الإسرائيلية الحالية القناع الذي اعتمرته الحكومات الإسرائيلية السابقة حتى الآن أمام العالم. وقد صور هذا القناع إسرائيل لأعوام طويلة كما لو أن حكمها وسيطرتها على الأراضي المحتلة يفيان بالالتزامات القانونية السارية عليهما في أراضي الضفة الغربية، وكما لو أن قراراتها خاضعة إلى مراجعة قضائية من طرف المحكمة العليا. الآن، تسعى سياسة الحكومة علنا إلى تطبيق السيادة الإسرائيلية ومأسسة الفوقية اليهودية في الضفة الغربية". وفي مُجرد هذه الخلاصة إشارة بليغة إلى أن السياسة الإسرائيلية إزاء الضفة الغربية موبوءة برمتها أصلا بغايتي الضم والأبارتايد.

ثالثاً: ينبغي أن نتوقف عند الخطوة الأخيرة التي ذكرها تقرير الجمعيات الحقوقية، في إطار تعداد الخطوات التي اتخذتها الحكومة الإسرائيلية، من أجل تغيير وجه الضفة الغربية، وهيكل السيطرة الإسرائيلية فيها (خطوة إساءة معاملة السكان الفلسطينيين بغية تهجيرهم قسرا)، ولا سيما في ضوء تواتر تصريحات وزراء إسرائيليين تدعو إلى ما هو أشد دهاء من الإساءة، كما في تصريح سموتريتش، خلال لقائه قادة المستوطنين في الضفة الغربية، في أوائل يناير 2025، حين وضح أنه وضع خطة من شأنها أن تجعل البلدات والمدن الفلسطينية الآتية: الفندق ونابلس وجنين، تبدو كما لو أنها جباليا في شمال غزة، حتى لا تتحول مدينة كفار سابا (في وسط إسرائيل) إلى مستوطنة "كفار عزة" في منطقة الحدود مع غزة، على حد تعبيره.

إن دعوات سموتريتش المتكررة إلى محو قرى وبلدات فلسطينية، التي بدأها بعد فترة وجيزة من تسلمه مهمات منصبه الوزاري، حين دعا إلى محو بلدة حوارة، وتشديده على أن من واجب دولة الاحتلال أن تتبنى بنفسها ارتكاب مثل هذه الجرائم، وتضع حدا لما وصفه بأنه "خصخصتها"، تشبه التحريض الذي أدى إلى ارتكاب إبادة جماعية ضد عرق الروهينغا في ميانمار (بورما سابقا)، وإلى ارتكاب إبادة جماعية ضد التوتسي في رواندا، وفق تأكيد الخبير الحقوقي الإسرائيلي، إيتاي ماك.

رابعاً: ما ذكرناه سالفا من قرار الحكومة الإسرائيلية، في مايو 2024، نقل السيطرة على إدارة مناطق الضفة الغربية من الجيش إلى أيدي المستوطنين، من خلال تعيين نائب لرئيس الإدارة المدنية يكون تابعا لوزير المالية الإسرائيلي سموتريتش، الذي هو وزير ثان في وزارة الدفاع، ومستوطن في أراضي 1967. بهذا الصدد؛ أعربت أكثر من جهة قانونية في إسرائيل عن اعتقادها بأن هذا النقل ينطوي على ما يمكن اعتباره "انتقالا من حالة الاحتلال العسكري المؤقت إلى حالة ضم مدني دائم". فبهذا التعيين ستكون للمستوطنين سيطرة تامة على مسائل البناء في المستوطنات، وعلى مسألة هدم منازل الفلسطينيين، إلى جانب ضمان مبالغ هائلة من الميزانية الأمنية، من أجل حراسة المستوطنات.

خامساً: يتمثل هدف الخطوة، حسبما أعلن سموتريتش نفسه، في إحباط فرصة إقامة دولة فلسطينية بصورة نهائية. يتعين أن ننوه هنا، سبق أن قال سموتريتش في تسجيل صوتي نقلته صحيفة "نيويورك تايمز" الأميركية، نهاية يوليو/تموز 2024: "إن هذا الأمر هائل جدا. ومثلُ هذه التغييرات سوف تغير الشيفرة الوراثية للنظام"، كما أكد أن رئيس الحكومة الإسرائيلية نتنياهو على عِلم بالخطة، ويتعاون معها بصورة تامة.

سادساً: لفت ليئور عميحاي، المدير العام لمنظمة "السلام الآن" الإسرائيلية منذ أشهر عدّة، إلى أنه في الوقت الذي يراقب سكان إسرائيل تطورات الحرب في قطاع غزة، تقودنا حكومة البلد، بصمت وإصرار، نحو الهاوية في إحدى الجبهات التي يقل الحديث عنها، جبهة الضفة الغربية. وشدد على أنه إلى جانب قضايا الأسرى، والحرب في قطاع غزة، وفي الشمال (لبنان وسورية)، وعشرات الآلاف من النازحين، باتت مهمة الحكومة المركزية خلال العام الأخير واضحة، وهي ضم أراضي الضفة الغربية، وتحويل إسرائيل إلى دولة يهودية مسيانية.

منذ تولي الحكومة الإسرائيلية الحالية مقاليد الحُكم في نهاية عام 2022، تشهد الضفة الغربية أكبر حركة استيطان كولونيالي فيها منذ بدايات الاستيطان فيها

في قراءة عميحاي، هذه هي نتيجة صفقة سياسية تتيح إمكان بقاء الائتلاف الحكومي الأكثر يمينية في تاريخ إسرائيل، إذ يحصل اليهود الحريديم (المتشددون دينيا) على إعفاء من التجنيد، ويحصل نتنياهو وحزب الليكود على السلطة (في الوقت الذي يتم تدمير الديمقراطية)، ويحصل اليمين الاستيطاني المتطرف على قرار ضم الضفة الغربية على طبق من ذهب.

سابعاً: مع تسلم ترامب مهماته، رئيسا للولايات المتحدة، تزداد مؤشرات اقتناع نتنياهو بقدرته على تجنيد ترامب لتحقيق أهدافه، مثلما جرى سابقا، هذا يشمل موضوع مأسسة الضم والأبارتايد في أراضي الضفة الغربية. كما أعلن نتنياهو عن تعيين رئيس ديوانه السابق، يحيئيل ليتر، في منصب سفير إسرائيل المقبل في واشنطن، يُعَد ليتر ممثلا للتيار الأيديولوجي لدى المستوطنين، إذ يشير التعيين إلى الاتجاه الذي يتطلع إليه نتنياهو، وهو اعتراف أميركي بضم المستوطنات في الضفة (وهو ما أراده، غير أنه لم ينجح في الوصول إليه في إطار "صفقة القرن"). ذكرت "قناة 7" الإسرائيلية اليمينية المتطرفة، قول نتنياهو في أحاديث مغلقة في الفترة الأخيرة إنه يجب إعادة طرح مسألة السيادة على الضفة الغربية مع دخول الرئيس ترامب إلى البيت الأبيض. وبذلك، أضافت الصحيفة، انضم كلام نتنياهو إلى كلام الوزير سموتريتش الذي قال قبله: "سيكون عام 2025، بعون الله، عام السيادة على "يهودا والسامرة" (الضفة الغربية)". وأضاف: "لقد أعطيت تعليماتي إلى إدارة الاستيطان في وزارة الأمن، والإدارة المدنية، من أجل إعداد الأرضية اللازمة لتطبيق السيادة. وأنوي العمل على إصدار قرار حكومي ينص على أن تعمل الحكومة الإسرائيلية مع الإدارة الجديدة للرئيس ترامب، والمجتمع الدولي من أجل فرض السيادة والحصول على اعتراف أميركي". وخلُص سموتريتش إلى القول إنه لا شك لديه في أن الرئيس ترامب، الذي أظهر شجاعة وإصرارا في قراراته خلال ولايته الأولى، سيدعم السياسة الإسرائيلية بشأن هذه الخطوة.

على الرغم مما يقوله نتنياهو وسموتريتش، وعلى الرغم من الفرح بفوز ترامب في أوساط اليمين الإسرائيلي المتطرف، ينوه عدد من المحللين الإسرائيليين بأن كل الفرحين نسوا أن ترامب عارض ضم المناطق ج في الضفة الغربية إلى إسرائيل، وعارض البناء في المستوطنات من دون قيود، ووقع "خطة سلام" هي "صفقة القرن" تستند، من ضمن أمور أخرى، إلى "حل الدولتين". وبناء على ذلك يظل من السابق لأوانه توقُع خطوات ترامب من الآن.

قراءة المقال بالكامل