أنتجت المخيّلة الأدبية سلاسل أعمال تشويقية بوليسية أو تجسُّسية تتّخذ من الأزمات الدولية والمحلّية مادّة لها، كـ"أرسين لوبين" للفرنسي موريس لوبلان، و"جيمس بوند" للإنكليزي إيان فليمنغ، و"شيرلوك هولمز" للاسكتلندي آرثر كونان دويل، ومن الطبيعي أن يجد الروائيّون المختصّون بهذا النوع من السرد جمهوراً لهم، يهرع لاقتناء نسخته من كلّ رواية جديدة، غير أنه ثمّة تجارب تكاد تكون مجهولة للقرّاء العرب، رغم أنها تتقاطع مع حاضرهم، وتستخدم تفاصيل واقعهم السياسي في إنشاء حكاياتها.
ولعل أبرز مثال يُمكن التوقّف عنده، هو "سلسلة SAS" للفرنسي جيرار دو فيلييه (1929 - 2013)، التي تتضمّن أكثر من 200 رواية بدأ في كتابتها عام 1965، حين أصدر أول جزء تحت عنوان "في إسطنبول"، ولم يوقفه عن استكمالها سوى رحيله عن الدنيا عام 2013 حيث صدر آخر الأجزاء بعنوان "انتقام الكرملين".
وقد لفت الانتباه حقاً أن دو فيلييه كان قد نشر في العامين الأخيرين من حياته روايتين تتعلّقان بالثورة السورية تحت عنوان "الطريق إلى دمشق"، بيعت منهما ككلّ كتبه مئات الآلاف من النسخ بين الجمهور القارئ بالفرنسية في سويسرا وفرنسا وبلجيكا، الأمر الذي خلق تساؤلاً حول ما تضمّنه الكتابان، وحول الرؤية التي صاغ من خلالها مشهد الحدث السوري.
كتابة هدفها الإثارة وتصبّ في سردية النظام البائد عن الثورة
عادة ما يُهمل المتابعون للشؤون السياسية ما تقوله الروايات الأدبية التشويقية التي تخوض في السياسة والمؤامرات والأعمال العسكرية والاستخباراتية، لكن روايات جيرار دو فيلييه، الذي اعتبرته صحيفة "نيويورك تايمز" الأميركية "مؤلّف روايات التجسّس الذي كان يعرف أكثر من اللازم"، استطاعت أن تصنع لنفسها مساحة تلقٍّ من نوع خاص، وذلك بسبب قدرته على التكهُّن بمُجريات الواقع وما ستؤول إليه الأحداث الحقيقية، الأمر الذي جعل نتاجه الروائي يحظى بمتابعة السياسيين والدبلوماسيين ورجال المخابرات، فهؤلاء هم جزء من شرائح القرّاء، لكن الاختلاف بينهم وبين الآخرين أن أولئك يقرأون من أجل المتعة ورفع مستوى الأدرينالين في الدم، بينما يسعون هم للحصول على معلومة إضافية أو مختلفة عما يعرفونه.
هذه الرؤية لـ"سلسلة SAS" تكرّست في الحقيقة من خلال الحيثيات التي كانت تردُ في سياق المعالجة الدرامية للأحداث، ففي الرواية يجب أن ينتهي الحدث لدى القارئ من خلال انتصار ما للبطل الرئيسي، الأمير النمساوي والعميل لدى "وكالة الاستخبارات الأميركية" مالكو لينغ، والتفوّق يبدأ وينتهي من القدرة على السيطرة على المجريات، وهذا ما يقتضي أن يقود صانع الرواية الأحداث صوب احتمال ما، قد لا يراه السياسي أو الدبلوماسي أو رجل المخابرات في الواقع، حيث تصبح المقاربة مختلفة يكتبها شخص يرى الأمور من زاوية مغايرة وغير متوقّعة.
استلهم عوالم المخابرات من دون أن يتطابق كلّياً معها
وهنا تجب الإشارة إلى أن البعض من المهتمّين شكّك في أن الروائي لم يكتب التفاصيل من قدح دماغه، بل كانت لديه مصادره المتنوعة من ضمن الأوساط السياسية والاستخباراتية، فكان يتزوّد بالمعلومات والتوجهات ويقوم بتكييفها لتصبح جزءاً من خطة عمله التي يسير فيها بطل مغامراته.
الحدث السوري في رؤية جيرار دو فيلييه
عبَرت "سلسلة SAS" قبل أن تصل إلى سورية في بلدان عربية عدّة، بالاستناد تلقائياً إلى أزمات وصراعات شهدتها، كلبنان وليبيا ومصر والعراق وغيرها، لكن ما يستحقّ التوقّف في مغامرة دو فيلييه نحو دمشق أن الجزء الأول الذي صدر في العام 2012، بموازاة ما كان يجري على الأرض، تضمّن مسعى مشغّلي العميل مالكو الأميركيّين الإطاحة بنظام الأسد، وفق خطة تضمن بديلاً من الطائفة العلوية ذاتها، خشية أن تتولّى حركة الإخوان المسلمين السلطة كما حدث في مصر، ويتم اختيار اللواء محمد مخلوف، ليحل مكان الدكتاتور بشار، غير أن أجهزة النظام وعلى رأسها شخصياته الرئيسة كعلي مملوك وماهر الأسد يكتشفان ما يخطّط له مالكو، ويتمكنان من إحباط المشروع، وتتم تصفية عائلة مخلوف بالكامل، بينما يهرب العميل مالكو، وينجو.
الجزء الثاني الذي صدر في العام التالي، حمل فعلياً تراجعاً في الظروف المناسبة للإطاحة بالأسديين! حيث يلحظ القارئ أن الكاتب يمضي بنبض يأخذه من الإيقاع العام للسياسة الدولية، حيث تظهر قوة الأجهزة الأمنية السورية، وسط صراع قاسٍ تشترك فيه كل الدول المتورطة في الملف، وكل الحركات السياسية مثل حزب الله وحماس، حيث يقترح جهاز الموساد الإسرائيلي على مالكو العمل وفق خطة انقلاب عسكري يصل فيها رئيس الأركان عبد الله القدم إلى السلطة، لكن الدهاء الذي يمتلكه رجال السلطة في سورية يوصلهم إلى جنا نايف، الفتاة التي تورط مالكو في حبّها، فيخطفونها، ويساومونه على حياتها، فيقرر في النهاية إبلاغهم بموعد الانقلاب مقابل نجاتها من الموت.
يمكن اعتبار الفشل الذي تحمله الأحداث في هذين الجزئين من السلسلة انعكاساً للقرارات التي اتفقت عليها الدول المتحكمة بالملف السوري، حيث ظهر منذ العام 2013 أن العالَم قد انصرف عن مأساة السوريين، بحجة غياب البديل، والخوف من وصول الإسلاميين إلى السلطة بعد ظهور "تنظيم الدولة الإسلامية" وتكريس صورته الوحشية عبر مشاهد الإعدام الشهيرة، لكن نجاة بطل السلسلة الذي يقتنع بأن مصير سورية سيكون قاتماً في ما لو وصل الجهاديون إلى السلطة، تبقى هي الهدف على الدوام، وبنظرة من نهاية القصة إلى أولها يكتشف القارئ أن الأحداث الواقعية ليست سوى حامل للثيمات الرئيسة في كتابة دو فيلييه، أي الإثارة والجنس والمؤامرة والتشويق، وأن الجموع البشرية التي تعيش ثوراتها أو معاناتها وسط صراعات القوى المتحاربة ليست سوى ملحقات أو خسائر جانبية، في عوالم يصوغ المؤلّف شخصياته فيها بطريقة نمطية، فالبطل ورغم كل أعماله السيّئة يبقى خيّراً، يقبل بالهزيمة مقابل أن تنجو حبيبته من يد القتلة، الذين يظهرون بدون تفاصيل إنسانية مهمة سوى تعطّشهم للسلطة ومفاخرها.
غير أن السؤال الذي يطرح هنا يدور حول عدد القراء الذي يتأثّرون برؤية الكاتب للحدث السياسي، وإذا جاز لنا أن نعتبر سورية مثالاً، فإن جيرار دو فيلييه كان بارعاً حقّاً، بحيث جاءت رؤيته مساندة لسردية الأسد حول تهديدات المتطرّفين الإسلاميين لنظامه العلماني.
* شاعر وناقد سوري
