عندما أوجد الله البشرية على هذه الأرض.. كملها بالعقل الذي هو أساس المقدرة على الاستمرار في الحياة، والانصهار في مسالكها وظروفها في الدنيا التي أعدها المولى عز وجل كمحطة للوصول إلى دار المقر الأبدي؛ لتكون مخرجات هذا العقل البشري من التفكير الإبداعي والتقليدي؛ سمة نسبية بين الخلائق باختلاف طبقاتهم ومستوياتهم الفكرية والثقافية والعلمية، وممثلاً للعمليات الذهنية الجوهرية التي تشكل أنماط السلوك والتعلم لدى الإنسان.
وعرف المتخصصون في الفلسفة والعلوم الإنسانية التفكير الإبداعي بأنه القدرة على إنتاج أفكار جديدة وغير مألوفة تتسم بالأصالة والمرونة، ويُعد أحد الركائز المهمة في الابتكار وحل المشكلات؛ في ما يمثل التفكير التقليدي عملية محاكاة السلوكيات أو الأفكار أو الأساليب التي سبق تجربتها، ويؤدي دوراً كبيراً في نقل المعرفة والثقافة بين الأجيال، ومن تجلياته عقلية القطيع التي تتسم بالتبعية العمياء دون أدني تفكير.
ويذهب أرسطو إلى أنّ العقل ليس وعاءً نملؤه؛ بل نارٌ نُشعلها؛ وفيما ذهب إليه أرسطو نستدرك أن التفكير والتعليم لا يجب أن يكونا عملية نقل للمعرفة فقط؛ بل يجب أن يثير الإبداع والبحث في نفس الإنسان من خلال هذا القول، ويمكن فهم أهمية التحفيز الفكري الذي لا يتوقف عند التقليد؛ بل يتجاوز إلى خلق أفكار جديدة ومبدعة؛ حيث تشير الدراسات الحديثة في علم النفس المعرفي إلى أن التفكير الإبداعي يرتبط بنشاط الفص الجبهي في الدماغ؛ خاصة في المهام التي تتطلب التوليد الحر للأفكار والربط بين مفاهيم متباعدة؛ أما التقليد فيعتمد بشكل أكبر على الذاكرة العاملة والتعلم بالملاحظة؛ كما يتجلى في تجارب بافلوف وباندورا حول التعلم السلوكي والاجتماعي؛ وبذلك يُظهر التقليد قدرة الإنسان على محاكاة نماذج سابقة وتبنيها كمرجع لبناء معارفه ومهاراته.
ويتجلى دور التفكير الإبداعي في الحياة اليومية؛ بإظهاره مجالات مثل: التصميم، والبرمجة، وبراءات الاختراع؛ فعملية ابتكار نموذج جديد في التعليم يعتمد على الذكاء الاصطناعي لا يمكن تحقيقه من خلال تكرار الطرق المعتمدة سابقاً؛ بل يتطلب رؤية مختلفة وشجاعة معرفية في منهج التجريب؛ فقد رأى ألبرت أينشتاين أنّ الخيال أهم من المعرفة؛ فالمعرفة محدودة؛ أما الخيال فيطوق العالم؛ مما يبين أن الإبداع يتجاوز الحواجز التقليدية للمعرفة إلى فضاءات غير مكتشفة بعد.
في المقابل؛ يلعب التقليد دوراً أساسياً في بناء الأساس المعرفي لدى الأفراد؛ خاصة في المراحل المبكرة من التعليم؛ فتعلُّم اللغة، وقواعد السلوك، وحتى المهارات المهنية الأولية؛ كلها تبدأ بالتقليد، وبدون هذا النمط من التعلم؛ سيكون على كل فرد أن يبدأ من الصفر، وهو أمر غير عملي ولا مستدام على مستوى المجتمعات.. يقول جون لوك: «التعليم يبدأ بالتقليد، لكنه لا ينتهي به»، مشيراً إلى أن التقليد رغم أنه مرحلة أساسية في بناء المعرفة؛ لا بد أن يتبعها التفكير النقدي والإبداعي.
كما تظهر الإشكالية حين يتحول التقليد من أداة تعلم إلى نمط تفكير دائم؛ يمنع صاحبه من التجديد أو النقد؛ ومعها يصبح هذا التقليد معيقاً للتطور؛ سواءً على الصعيد الفردي أو المؤسسي، وفي المقابل؛ حين يُمارس الإبداع دون ضوابط واقعية أو فهم لسياق المجتمع والمعرفة القائمة؛ قد يؤدي إلى أفكار غير قابلة للتطبيق أو ذات أثر سلبي؛ وهنا يُعبّر سقراط عن هذه الفكرة بقوله: «الحياة غير المتأمَّلة لا تستحق أن تُعاش»؛ ليؤكد على أهمية النقد الذاتي والفكر التأملي الذي يدفع نحو التجديد.
التوازن بين التفكير الإبداعي والتقليد هو ما تحتاجه مجتمعاتنا اليوم؛ فالمبدع الناجح هو من يمتلك معرفة قوية بالأسس والتقاليد؛ ويعمل على تطويرها بما يتناسب مع مستجدات الواقع؛ يقول ستيف جوبز: «الإبداع هو ببساطة الربط بين الأشياء»؛ حيث يعبر عن أن الإبداع لا يكمن في خلق شيء من العدم؛ بل في كيفية دمج المعارف التقليدية في حلول جديدة ومبتكرة؛ لهذا جعل ستيف جوبز التفاحة شعاراً لشركة أبل، وحقق الإبداع من خلال العديد من الابتكارات التي أنتجتها شركة أبل.
وفي المنحنى الأخير في العلاقة التكاملية بين التفكير الإبداعي والتقليدي؛ أصبح الذكاء الاصطناعي اليوم أحد أبرز الأمثلة على التفاعل بين العقل الإبداعي والتقليدي؛ فبينما يعتمد الذكاء الاصطناعي على تقنيات تعلم الآلة التي تستخدم البيانات السابقة «أي التقليد»؛ لتحليل الأنماط وإنتاج نتائج جديدة؛ فإنه أيضاً يشجع التفكير الإبداعي من خلال تمكين الإنسان من ابتكار حلول جديدة بناءً على نتائج لم تكن معروفة من قبل.
ويرى العالم رينيه ديكارت لكي يصل الإنسان إلى الحقيقة؛ يجب أن تشك، ولو مرة واحدة، في كل شيء؛ مما يعني أن الفكر الإبداعي يجب أن يظل دائمًا في حالة تساؤل وتشكك، وتعزيز منهج الشك؛ وهو ما ينسجم مع استخدام الذكاء الاصطناعي الذي يمكنه تقديم أفكار جديدة بناءً على معطيات لم يكن البشر قادرين على ربطها من قبل.. مما يدلل لنا على بقاء العلاقة بين التفكير الإبداعي والتقليدي كعلاقة تكاملية.. يلعب كل منهما دورًا أساسيًا في تطوير الإنسان والمجتمع.
@ahalim124