المخاض السوري وضرورة المعارضة

منذ ٥ ساعات ١٦

أثار حديث قائد إدارة العمليات العسكرية في سورية، الرئيس الانتقالي لاحقاً، أحمد الشرع، في لقائه مع قادة فصائل عسكرية من محافظة السويداء يوم 18 ديسمبر/ كانون الأول الماضي عن ضرورة تبني "عقلية الدولة" لا "عقلية المعارضة"، أسئلة وهواجس لدى القوى السياسية والمنظمّات المدنية بشأن مغزى الحديث وما يرمي إليه في السياق السوري الراهن، أهو حديث عن انتهاء دور المعارضة بعد إسقاط النظام البائد، وهو ما حصل في تجاهل السلطة الجديدة الأحزاب السياسية التي عارضت النظام البائد سنوات طويلة في مشاوراتها وقراراتها السياسية والإدارية وتوجهها إلى التعامل مع أفراد لا تجمعات سياسية منظمّة، كما تجلى ذلك بوضوح في دعوة مواطنين إلى المشاركة في مؤتمر الحوار الوطني أفراداً، أم هو موقف من ظاهرة المعارضة بالمطلق، ما يعني منع تشكيل أحزاب معارضة في النظام المنوي إقامته، هاجس أثاره أكثر تجاهل البيان الختامي لمؤتمر الحوار الوطني لقضية إصدار قانون تشكيل أحزاب سياسية، وهو ما يمكن اعتباره توجّها غير منطقي، وتجاهلا لطبيعة الدولة الحديثة، كون عقلية الدولة لا تلغي عقلية المعارضة بل تستدعيها؛ كون المعارضة من وسائل استقرار الوضع السياسي والاجتماعي عبر تقييد تصرفات سلطات الدولة، وخاصة سلطتيها التنفيذية والتشريعية، ولجم تغوّلها على المجتمع.

انتقلت الدولة، بمعناها الحديث، إلى سورية مع الاستعمار الفرنسي الذي بدأ بإنشاء بعض مؤسّسات الدولة وأجهزتها، غير أن عدم توفر شروط محلية لقيام دولة حديثة جعل هذه المؤسسات والإدارات هجينة وغير شعبية، وجعل الدولة التي نشأت بعد الاستقلال هشة، وبعد انقلاب "البعث" في ستينيات القرن الماضي أقرب إلى الدولة القديمة (دولة الملك/ الأسرة الحاكمة) منها إلى الدولة الحديثة (دولة الأمة/ الشعب)، حيث طابقت السياسة المعتمدة بين الرئيس والدولة ومنحته حق التصرف بمقدرات البلاد وتحديد خياراتها السياسية والاقتصادية عبر صياغة دستور يغطي تصرفاته ويشرعنها، وأسبغت عليه صفات كبيرة، القائد، المناضل، العظيم، سيد الوطن، الأب، من دون أن تنسى، لاعتبارات محلية، أن تحيطه بهالة دينية عبر عرض ممارسته الشعائر الدينية، وتصف أعماله بالبطولة والشجاعة وخرق المألوف واجتراح المعجزات... إلخ. وأحالت كل إنجازات الدولة الفعلية والمدّعاة إلى شخصه وصفاته وقدراته، وضعته موضع الدولة، ومنحته كل صلاحياتها؛ لذا أصبح فوق النقد، يجرّم من ينتقده وتسنّ القوانين الرادعة والأحكام القاسية بحق المنتقدين والمعارضين.

لم تستجب قرارات السلطة الجديدة، السياسية والإدارية والأمنية، لتطلعات القوى السياسية والاجتماعية بل جاءت على الضد منها

لجأ النظام البائد إلى الالتفاف على السلطة التشريعية بإيجاد عشرات المنظمات الشعبية، مثل: اتحاد العمال، اتحاد الفلاحين، اتحاد الطلاب، الاتحاد النسائي، الطلائع وشبيبة الثورة ... إلخ، واستتبع النقابات المهنية لكي يزيد من تمثيل المجتمع الملتف حوله، لكنها، هذه المنظمات والنقابات، لم تساهم البتة في تمثيل المجتمع في مواجهة السلطة. كما التف على السلطة القضائية، بوضع دساتير وقوانين تتسق مع خياراته السياسية والاقتصادية والاجتماعية، وتحدّ، في الوقت نفسه، من حرية المواطنين في نقد هذه الخيارات ورفضها وتغييرها، كما لجأ إلى تحاشي القانون الدولي والإعلانات الدولية لحقوق الإنسان والمواطن باستخدام سلطة القضاء لقمع الناقدين والمعارضين، والتذرّع بأن القضاء في أعرق الدول ديمقراطية يتجاوب مع مخاوف الرئيس/ الحكومة إزاء أمن البلاد، في محاولة مكشوفة لإطلاق يد السلطة التنفيذية في التصرف من دون ضوابط.

قاد إسقاط النظام البائد وتخلّص المواطنين من الكابوس الجاثم على صدورهم إلى مطالبة القوى السياسية والاجتماعية بشرعية دستورية وممارسة قانونية قائمة على تحديد واضح ومفصّل للحقوق والواجبات. وهذا يستدعي انتقال المؤسّسات التنفيذية والتشريعية والقضائية والإدارية في الدولة من حالتها الراهنة، حالة أشباه المؤسسات، أو مؤسسات تابعة للسلطة التنفيذية، إلى بُنى حقيقية قائمة على لوائح وأنظمة داخلية تحكم حركتها، لكي تكون قادرة على القيام بوظائفها وتكريس تقاليد مؤسساتية تعمل في ظل شرعية قانونية، تساهم في تحويل الثقافة السياسية السائدة نحو تلك القاعدة الضرورية لأي شرعية، قاعدة الاقتناع الحر بصحة البنية الدستورية والقانونية للسلطة التنفيذية وصلاحها وانسجام الممارسة العملية معها.

تركيز السلطة الجديدة على رفع العقوبات لتوفير سيولة واستثمارات تيسير إقلاع الاقتصاد يتعارض مع تجاهلها معاناة المواطنين بسبب حبسها السيولة

لم تستجب قرارات السلطة الجديدة، السياسية والإدارية والأمنية، لتطلعات القوى السياسية والاجتماعية بل جاءت على الضد منها، حيث بدأت خطواتها السياسية والإدارية من اختيار رئيس للمرحلة الانتقالية وتفويضه بالقيام بمهام واسعة، ثم ذهبت إلى مناورات سياسية وإدارية لتمرير تصورها للنظام السياسي المنوي إقامته عبر خطوات تأسيسية بتشكيل لجنة تحضيرية لحوار وطني قامت بإجراء لقاءات شكلية مع مواطنين في عدد من المحافظات، عقدت بعدها جلسة علنية، أعلنت بعدها بيانا ختاميا كُتب قبل عقد المؤتمر بأيام. لم تكتف بذلك بل أعلنت أن بنود البيان الختامي توصياتٍ غير ملزمة للرئيس والحكومة، ثم صاغت إعلانا دستوريا للمرحلة الانتقالية قضى بتبنّي نظام رئاسي وبمركزة السلطة بيد الرئيس الانتقالي عبر منحه صلاحيات واسعة جعلته صاحب القرار الوحيد طوال المرحلة الانتقالية. ركزت انتقادات القوى السياسية والثقافية والاجتماعية في نقدها "الإعلان" على بندي دين رئيس الدولة والتشريع الإسلامي مصدرا رئيسا للتشريع، مع أنهما، على تنافرهما مع بنية المجتمع المتنوعة دينيا ومذهبيا، ليسا الأهم والأخطر قياسا إلى الخط العام للإعلان الذي أسّس لنظام الرجل الواحد. تلا ذلك تشكيل مجلس إفتاء، قال عضو مجلس الإفتاء الشيخ نعيم عرقسوسي إن من مهامه الحكم على مدى تطابق قرارات السلطة مع الشريعة الإسلامية، وحكومة انتقالية الثقل الرئيسي فيها لشخصيات من هيئة تحرير الشام "المنحلة"، سبع وزارات ضمنها الوزارات السيادية. وهذا جعل حديث الشرع عن تبنّي "عقلية الدولة" لا "عقلية المعارضة"، يعني ضمناً تقييد الفضاء العام ورفض قيام أحزاب ونقابات حرة تدافع عن مصالح المجتمع عامة وقطاعاته المهنية في وجه قرارات السلطة وممارساتها. أكد هذا التوجه قرار وزير الخارجية أسعد الشيباني تشكيل "الأمانة العامة للشؤون السياسية" لإدارة الحياة السياسية، ما جعل وجود معارضة وطنية سلمية ضرورة قصوى.

يستدعي عبور الدولة السورية إلى حياة وطنية، دستورية وقانونية، مستقرّة ومثمرة، بداية، تبنّي سياسة تميّز بين الدولة والسلطات المتفرّعة عنها، والتمسّك بحق المواطنين في تصويب خطوات الرئيس/ الحكومة باستخدام وسائل الحدّ من سلطة الرئيس/ الحكومة، مثل الدستور وقوانين حقوق المواطنين، ومبدأ الفصل بين السلطات واللجوء إلى المحكمة الدستورية العليا أو غيرها، التي أوجدتها الخبرة البشرية لمنع إساءة استخدام الرئيس/ الحكومة للسلطة التي منحتها لهما الدولة، والتخلّص من السياسة التي تعتبر انتقاد الرئيس/ الحكومة إساءة للدولة، وتطابق بين انتقاد الرئيس ومحاسبته والإساءة إلى حرمة الدولة وهيبتها. فالمواطنون، حسب فقهاء القانون الدستوري، لا يقومون بإطاعة السلطة من أجل الطاعة نفسها، وإنما يطيعونها من أجل أهداف يعتقدون أنها ستتحقق، عندما تؤدّي هذه السلطة عملها، فهم يخضعون للأوامر، لأنهم يعرفون ما تتضمّنه هذه الأوامر من غايات مرتبطة بالهدف الذي يسعون إلى تحقيقه في الحياة، والمواطنون الذين يؤدون الطاعة للحكومة لا يفعلون ذلك من أجل النظام فقط ولكن لما سيتمخض عن هذا النظام من فوائد ومكاسب، وهم يقومون بتقدير قيمة الدولة ووكيليها، الرئيس/ الحكومة، من زاوية موجبات الرضا التي يعتقدون أنها تتيحها لهم، وأن من صميم حقوقهم استخدام القوانين والنظم التي تتيح لهم ليس فقط نقد الرئيس/ الحكومة بل واستبدالهما. وهذا يقود بشكل تلقائي إلى ضرورة وجود معارضة سياسية ونقابات حرّة ومنظمات مجتمع مدني تراقب وتنتقد وتحاسب باعتبار ذلك من موجبات الدولة الحديثة.

يستدعي عبور الدولة السورية إلى حياة وطنية، دستورية وقانونية، مستقرّة ومثمرة، بداية، تبنّي سياسة تميّز بين الدولة والسلطات المتفرعة عنها

يشير ما ورد أعلاه إلى تعارض قرارات وخطوات السلطة الجديدة مع المتعارف عليه دوليا حول المفاهيم الحديثة للدولة والسلطة ووظيفة الرئيس والحكومة ودور المعارضة السياسية والنقابات الحرّة ودور منظمات المجتمع المدني الرقابي في الدولة الحديثة وإلى عدم اتساق ما قامت به السلطة الجديدة على الصعيدين السياسي والإداري مع هذه المفاهيم والأسس، خاصة التوجه التأسيسي في الإعلان الدستوري لنظام الرجل الواحد. ويشير ما ورد أعلاه، ضمنا، إلى دعوة السلطة الجديدة إلى إعادة نظر حقيقية في ما فعلت قبل أن تذهب بعيداً في خطواتها وتكرّس نظاماً فردياً لن يجد القبول من عامّة المواطنين. وهذا يتطلب منها التدقيق في خلفياتها السياسية وموازنتها مع ما يفيد الشعب ويرضيه عبر تحقيق تطلعاته السياسية والاقتصادية، بدءاً من مراجعة تصوراتها حول طبيعة السلطة ووظيفتها ومهماتها ومنح المجلس التشريعي الانتقالي القادم حق إعادة النظر في الإعلان الدستوري لجهة تخفيف المركزية والحد من مركزة السلطة بيد الرئيس الانتقالي، والتحرّر، تالياً، من تصورات منتشرة بين جماعات الإسلام السياسي حول خطورة الأحزاب على وحدة المجتمع إذا كانت جزءاً من تصوراتها، فليس صحيحاً أن الأحزاب تؤدّي إلى تشتيت المجتمع، بل العكس تماماً هي تنظم المجتمع وتجمع أفراده حول أفكار ومشاريع بدل أن يبقوا أفرادا مشتتين أو جزءاً من تشكيلات المجتمع الأهلي الضعيفة والمفككة؛ وتعطي الجميع فرصاً متكافئة في المساهمة في بناء البلاد، كما تلعب دورا مهما في تفكيك البنية الاجتماعية القبلية والعشائرية وتجعل من الممكن تجاوز معايير المجتمع الأهلي الذي يقوم على قرابة الدم كقاعدة للسلوك اليومي كما تعكسه المقولة الشعبية: انا وأخي على ابن عمي، وانا وابن عمي على الغريب، ما يمهد للانتقال إلى ثقافة المواطنة ومستدعياتها في التنظيم والحكم. فلا حياة سياسية من دون أحزاب سياسية منظمة تجتمع حول فكرة وليس حول شخص أو عشيرة أو منطقة أو ممول. كما يتطلب التدقيق عملا مؤسسيا قائما على الدراسة والتخطيط الدقيق، فالدولة تسعى عبر السلطة/ الحكومة إلى تحقيق أهدافها أولاً من خلال جمع المعلومات بصورة منهجية ودقيقة عن الأوضاع القائمة، يليها وضع خطة لاستخدام الموارد على نطاق واسع وعلى مدى فترة مناسبة، خطة قائمة على الموازنة بين أهدافها ووسائل تطبيقها، ما يتطلب وضع أهداف واقعية وتخصيص الموارد اللازمة لتحقيقها، من أجل جعل هذا المستقبل حقيقة. فالأهداف والوسائل صنوان لا ينفصلان. هنا لا بد من الإشارة إلى أن تركيز السلطة الجديدة على رفع العقوبات لتوفير سيولة واستثمارات تيسير إقلاع الاقتصاد يتعارض مع تجاهلها معاناة المواطنين بسبب حبسها السيولة وإحداث حالة تضخم وإرباك في سوق صرف العملة الوطنية وتبعات ذلك على المواطنين الذين اضطرّوا إلى بيع حوالاتهم ومدخراتهم بأسعار بخسة، أقلّ من السعر الذي حدّدته السلطة ذاتها، ما أثار التذمر والأقاويل ضدها، والشك في وعودها وتحوّل المواطنين عنها وخسارتها جزءا وازنا من شرعيتها، فاكتساب الشرعية لا يتحقق بإسقاط النظام فقط، بل بإعادة بناء السلطة السياسية على سيادة القانون والعدالة والمساءلة، والشرعية في عالم ما بعد الاستبداد لا تُمنح إلا بعد تحقيق شرطين: قيام السلطة على أسس التعددية والتشاركية، وتمثيلها كل مكوّنات المجتمع تمثيلاً حقيقياً.

قراءة المقال بالكامل