تسبر مسرحية "الوحش الآخر"، من تأليف الكاتبة الإسبانية آنا روخاس وإخراج خوسيه مارتريتي وبيدرو أيوسي، والتي تُعرَض حالياً على خشبة "مسرح نافي ماتديرو" في مدريد، عوالم النفس البشرية الغامضة التي سمّاها سيغموند فرويد مناطق اللاشعور أو اللاوعي، من خلال حكاية امرأةٍ تُدعى سارة، تجد نفسها عالقة في حُطام علاقاتها الرومانسية، فتنسى ذاتها ويبدأ وحشٌ رهيب بالنموّ في داخلها.
نحن أمام مثلّث أضلاعُه البطلة، وزوجُها مارك - المهندس المعماري الثريّ، وعشيقُها الشاب. يعود الزوج من رحلة عمل فيجد زوجته قد تغيّرت تماماً: لم تعُد المرأة التي يعرفها، أصبحت غريبةً، وباتت لديها أحلامٌ ورغبات ومخاوف جديدة. وهذا الواقع المستجدّ يُقابله واقعٌ آخر في عالم اللاوعي الخاصّ بها، في انفصال عميق بين حياتيها الخارجية والداخلية، وهو ما يتّخذ منه العرض مرتكزاً للتفكير في الأزمات الوجودية: الهوية، والذات، والعلاقة بين الأنا والآخر...
رويداً رويداً، سنتعرّف على ذلك الوحش الذي يعيش في أعماق البطلة؛ حيث نلمحه ينظر إلينا من خلف عينيها، ونسع صوته الأجشّ، بل إنّنا سنراه يحمل سكّيناً بين أسنانها ويتقدّم نحونا مستعدّاً للطعن. لا تستطيع سارة ترويض الوحش، لا تستطيع ترويض رغباتها وأحلامها واندفاعاتها وخواطرها، فنحن، ومهما حاولنا، لن نستطيع الإفلات من تلك العوالم الخفيّة التي تُدير حياتنا الشعورية والمرئية أمام الآخرين.
عن أولئك الذين يطالبهم العالم بأن يكونوا مختلفين عن حقيقتهم
الموسيقى متعدّدة النغمات، ديكور المسرحية، الغرف المتعدّدة، تقلّب الشخصيات، ملابس الممثّلين، النصوص الشعرية، الأداء المسرحي، تصميم مشاهد الفيديو، الشخص الذي يحمل الكاميرا فوق الخشبة وينقل عبر شاشة كبيرة مقاطع الأجساد وتفاصيل الوجه أثناء العرض... كلُّ ذلك يُسخَّر لخدمة فكرة الثنائيات المتناقضة التي تعكس عالمَي الشعور واللاشعور، الوعي واللاوعي، الداخل والخارج، حيث يُقدّم المخرجان قطعة اعترافية مبنيّة على نصوص مباشرة وحادّة للغاية، تُوسّع لغة الدراما لتضربنا بقوّة في أسفل بطوننا.
غير أنّ العمل، الذي يستمرّ عرضُه حتى الثاني من شباط/ فبراير المقبل، يُمكن تفسيره، كذلك، بوصفه مساحة لاحتضان التناقضات وقبول حقيقة أنّ الجزء البرّي والوحشي فينا ليس عدوّاً دائماً، بل قد يكون حليفاً في إعادة بناء الهوية؛ إذ يجمع العرض بين الصدق الوحشي والجمال الشعري، ليكون ليس مجرّد مسرحية عن زوجين محطَّمين، بل صرخة من أجل الحرّية لأولئك الذين يشعرون بأنّ العالم يُطالبهم بأن يكونوا شيئاً مختلفاً عن حقيقتهم. ربّما في ذلك تذكيرٌ بأنّنا نحتاج، أحياناً، إلى إطلاق العنان للوحش الذي يعيش بداخلنا إذا أردنا أن نعيش بسلام.
