ترامب يسوّق لنكبة أخرى: "تطهير" غزة لاستعادة صفقة القرن

منذ ٢ شهور ٣٨

لم يكن مفاجئاً طرحُ الرئيس الأميركي دونالد ترامب، أول من أمس السبت، رؤيته للوضع في قطاع غزة بعد العدوان الإسرائيلي عليه، وفكرة "تطهير" غزة "المدمّرة بالكامل" من سكّانها إلى الأردن ومصر. حديث ترامب عن ضرورة نقل "أشخاص" من القطاع إلى الدولتين المجاورتين لفلسطين المحتلة، يشكّل استكمالاً لمشروع الشرق الأوسط الجديد، الذي يروّج له رئيس حكومة الاحتلال بنيامين نتنياهو، ومهّد له بحرب إبادة وتدمير ممنهج في القطاع، ولرؤية تخدم المصالح الجيواستراتيجية الأميركية للمنطقة ما بعد الحرب. لكن الطرح أول من أمس، قد يكون شكّل صدمةً لحكومة نتنياهو، لجهة سرعة الكشف عنه، علماً أن وزير المالية اليميني المتطرف بتسلئيل سموتريتش وصفه بالحلّ "من خارج الصندوق" بدل حلّ الدولتين. ولا يتناغم طرح ترامب، فقط، مع كل المقاربة التي اعتمدها للصراع العربي الإسرائيلي منذ ولايته الأولى، عندما حاول فرض صفقة لم تمر تستهدف تصفية الصراع، أو تخدم مشروعاً "اقتصادياً سياسياً" للمنطقة، بل يأتي استكمالاً لمسار انتهجته أيضاً كل الإدارات السابقة، ومنها إدارة بايدن، التي تواطأت في حرب الإبادة الأخيرة، وحاولت فرض التهجير، لولا الصمود الفلسطيني و"الخطوط الحمر" العربية. كذلك يأتي الطرح استكمالاً "منطقياً"، من وجهة نظر ترامب، لـ"إنجازات" دولة الاحتلال في القطاع طوال 15 شهراً من العدوان وحرب الإبادة والتدمير الممنهج لكل مقومات الحياة. ويتوقع أن تتعرض مصر والأردن لضغوط سياسية واقتصادية من البيت الأبيض للخضوع لإملاءاته، علماً أن مقاومة "من خارج الصندوق"، كانت تفجرت أيضاً في 7 أكتوبر/تشرين الأول 2023، لمواجهة ما أسّست له ولاية ترامب الأولى من مشاريع أميركية جديدة في المنطقة.

ويتقاسم الرئيس الأميركي الجمهوري أفكاره حول مستقبل الشرق الأوسط، مع مجموعة من المستشارين والسياسيين الذين يعدّون من عتاة المؤيدين والداعمين لإسرائيل، وذلك على خلفية تمتزج فيها مصلحة الأمن القومي الأميركي والدور الأساسي الذي تلعبه دولة الاحتلال باعتبارها شرطياً للولايات المتحدة في المنطقة، وتخدم من خلالها مصالحها الاستراتيجية، مع الخلفية الأيديولوجية والدينية والعنصرية والسياسية والاقتصادية. صهر ترامب اليهودي جاريد كوشنر، الذي أمسك بملف الصراع خلال ولاية ترامب الأولى، كان قد عبّر مع بداية العدوان على غزة عن بعض أفكاره لغزة، ويوفد ترامب اليوم إلى المنطقة مبعوثه ستيف ويتكوف، وهو يهودي أيضاً، و"مستثمر"، حيث يسعى لتمرير مشروع التطبيع بين دولة الاحتلال والسعودية، تتويجاً لمسار "اتفاقات أبراهام" (اتفاقات التطبيع مع دول عربية) التي أطلقها في ولايته الأولى. ويسقط طرح ترامب أي حقّ للفلسطينيين بأرضهم، وحرية تقرير المصير، بل يفسّر مواصلة الاحتلال عدوانه طوال 15 شهراً، بعدما رفض الفلسطينيون في بدايته الانصياع لضغوط "تطهير" غزة والتهجير القسري أو الطوعي، ومقاومة القاهرة وعمّان لأي تهجير من غزّة إلى الأردن ومصر، بل قاوم الفلسطينيون طوال أشهر، خطة الجنرالات التي حاول جيش الاحتلال فرضها في شمال غزة، بحملة عسكرية وحشية لـ"تطهير" شمال القطاع من سكّانه.

رحّب اليمين المتطرف الإسرائيلي بتعليق ترامب واعتبر سموتريتش الخطة "حلّاً من خارج الصندوق"

"تطهير" غزة والاستيلاء على الأرض "المحروقة"

وكان ترامب، السبت، مُباشراً بطرح خطة "تطهير" غزة ما بعد الحرب، والتي تقوم فعلياً على محاولة تقليل عدد الفلسطينيين في أرضهم المحتلة، عبر محاولة التخلص أولاً من حوالى مليوني غزّي بالاستيلاء على أرضهم بذريعة أنها باتت "محروقة"، فيما يواصل الاحتلال حربه على الضفة الغربية، تزامناً مع سعيه لإنهاء قضية اللاجئين بالتضييق على نشاط وكالة غوث وتشغيل اللاجئين الفلسطينيين "أونروا".

وقال ترامب، السبت، خلال رحلة العودة من لاس فيغاس إلى البيت الأبيض على طائرة "إير فورس وان"، إن الوضع في غزة "فوضوي" و"مدمّر"، وإنه تحدث مع العاهل الأردني الملك عبد الله الثاني بشأن إمكانية نقل سكان قطاع غزة المدمر إلى الدول المجاورة، مشيراً إلى أنه يعتزم أيضاً التحدث مع الرئيس المصري عبد الفتاح السيسي في هذا الموضوع. وأوضح ترامب في تصريحاته: "تحدثت مع الملك عبد الله (السبت) بشأن نقل الأشخاص من غزة المدمرة إلى الدول المجاورة، مع إمكانية بناء مساكن في مواقع مختلفة ليتمكنوا من العيش في سلام. قد يكون هذا الحل مؤقتاً أو طويل الأمد. وسأتحدث مع الرئيس المصري السيسي غداً (أمس الأحد) في هذا الأمر أيضاً". وأشار إلى أن مكالمته مع ملك الأردن كانت مثمرة، قائلاً: "كانت مكالمة جيدة جداً. الملك عبد الله صديقي ونحن نتفق جيداً. لقد تعاملت معه على مدار السنين بشكل ممتاز. قام بعمل رائع، فهو يستضيف ملايين الفلسطينيين ويعالج هذا الوضع بطريقة إنسانية للغاية. أثنيت عليه بسبب ذلك. لقد قام الأردن بعمل مذهل في إسكان الفلسطينيين بطريقة ناجحة للغاية." وتابع: "سأتحدث مع الرئيس السيسي، وأتمنى أن تأخذ مصر بعض الأشخاص. كذلك أتمنى أن يقبل الأردن أيضاً. نحن نتحدث عن مليون ونصف مليون شخص. نحن نعمل من أجل "تطهير" غزة بالكامل. كما تعلمون، مرّت المنطقة خلال قرون بالعديد من الصراعات. يجب أن يحدث شيء ما. الوضع في غزة دمّر بالكامل، كل شيء هُدم تقريباً، والناس يموتون هناك. لذلك، أعتقد أن من الأفضل أن نتعاون مع بعض الدول العربية لبناء مساكن في مناطق أخرى حيث يمكنهم العيش في سلام، ربما هذا الحل مؤقت أو طويل الأمد."

ورحّب اليمين المتطرف الإسرائيلي بتعليق ترامب حول "تطهير" غزة من سكّانها، من دون أن يصدر حتى عصر أمس، أي تعليق من مكتب نتنياهو، فيما أكدت حركتا "حماس" و"الجهاد الإسلامي" رفضهما لخطة التهجير المقترحة. وقال وزير المالية الإسرائيلي، بتسلئيل سموتريتش، إن "الفكرة بمساعدتهم على إيجاد أماكن أخرى فكرة رائعة. فبعد سنوات من تقديسهم الإرهاب، بإمكانهم البدء بحياة جديدة وجيدة". وبرأيه، فإنه "فقط تفكير جديد من خارج الصندوق يمكن أن يأتي بحلّ السلام والأمن". وأضاف: "سأعمل مقابل رئيس الحكومة والكابينت حتى يخرج هذا المخطط إلى حيز التنفيذ قريباً". أما وزير الأمن القومي الإسرائيلي السابق، إيتمار بن غفير، فوجّه "تهنئة" لترامب على "مبادرته"، معتبراً أنه "عندما يطرح رئيس أكبر قوة بالعالم الهجرة الطوعية للفلسطينيين، فمن الحكمة أن تشجعها وتنفذها حكومتنا".

وكانت وكالة الأنباء الأردنية "بترا"، قد أكدت أن ترامب والملك عبد الله، أجريا مكالمة هاتفية السبت، دون التطرق إلى مضمونها. وتضم المملكة أكثر من 2.39 مليون لاجئ فلسطيني، بحسب الأمم المتحدة.

من جهته، توعّد عضو المكتب السياسي لـ"حماس"، باسم نعيم، أمس، بـ"إفشال" فكرة الرئيس الأميركي بشأن "تطهير" غزة من الفلسطينيين، مضيفاً في تصريح لوكالة فرانس برس، أن "شعبنا كما أفشل على مدار عقود كل خطط التهجير والوطن البديل سيفشل كذلك مثل هذه المشاريع". بدورها، دانت حركة الجهاد الإسلامي، المقترح، معتبرة أنه يشجع على ارتكاب "جرائم حرب وجرائم ضد الإنسانية". وقالت في بيان: "ندين بأشد العبارات تصريحات الرئيس الأميركي دونالد ترامب. إنها تندرج في إطار التشجيع على مواصلة ارتكاب جرائم الحرب والجرائم ضد الإنسانية بإجبار شعبنا على الرحيل عن أرضه".

تدمير ممنهج في غزة

بحسب أرقام الأمم المتحدة، فقد دمّر العدوان الإسرائيلي الأخير على القطاع، 60% من المباني في غزة، بما فيها المدارس والمستشفيات، وحوالى 92% من منازل المدنيين، وفق الأمم المتحدة. ولم تطرح أي خطة عربية ملموسة بعد لإعادة إعمار القطاع، ويتحدث إعلام الاحتلال تارة عن حكم مستقبلي للقطاع بمشاركة دول عربية، و"متقاعدين أميركيين"، وعن احتلال "أمني"، فيما أظهرت حركة حماس، مع وقف النار، وجوداً عسكرياً وخدماتياً وإدارياً متماسكاً. وخلال الحرب، هُجّر حوالى 90% من الغزّيين، عدد كبير منهم لأكثر من مرة، وأحياناً لعشر مرات، من منطقة إلى أخرى، وفق الأمم المتحدة. علماً أن العدوان خلّف حوالى 50 ألف شهيد، وفق الأرقام المعلنة حتى الآن، من أصل أكثر من مليوني فلسطيني يشكّلون سكّان القطاع الذي ظلّ محاصراً منذ عام 2006، عقب فوز "حماس" بالانتخابات التشريعية الفلسطينية في ذلك العام، ثم جرى تشديده، وهو حصار خانق جعل الغزّيين يعيشون في ما يشبه السجن المفتوح، مع إبقاء الاحتلال سيطرته على المنافذ البرّية للقطاع، والبحرية، وغيرها من أشكال الهيمنة، بما يشكل عقاباً جماعياً.

وكان ترامب استبق الكشف عن اقتراح "تطهير" غزة من الغرّيين بحسب ما نقل عنه أول من أمس، باعتباره قبل أيام أن وقف النار في القطاع قد يكون "هشّاً"، في إشارة إلى صفقة وقف النار في غزة الذي دخل حيّز التنفيذ في 19 يناير/كانون الثاني الحالي، وهي صفقة حصلت بتناغم استثنائي بين إدارة بايدن المنتهية ولايتها وفريق ترامب، حيث كان الجميع يردّد أن الرئيس الجمهوري يريد حصول وقف النار قبل موعد تنصيبه الذي أجري في 20 يناير. واعتبر ترامب في يوم تنصيبه، أنه ليس أكيداً من أن وقف النار سيكون دائماً، طارحاً أيضاً بعض الأفكار لغزة، بقوله إن "غزة يجب أن يُعاد بناؤها بطريقة مختلفة"، مضيفاً أنها "مكان مثير. موقع رائع على البحر. أفضل طقس، كل شيء جيّد. يمكن فعل أشياء جميلة هناك، لكنها مثيرة للاهتمام". وكان صهر ترامب، جاريد كوشنر، قد رأى في مارس/آذار الماضي، في تعليق عام نادر له خلال العدوان، أنه ينبغي لإسرائيل ترحيل المدنيين خلال عملها على ما سماه "تطهير" غزة من المقاومة الفلسطينية، إلى صحراء النقب، أو مصر. وأضاف خلال لقاء له في جامعة هارفارد أنه لو كان مسؤولاً في إسرائيل، فإن أولويته الأولى ستكون إخراج المدنيين من مدينة رفح الجنوبية، وأنه "بالدبلوماسية" قد يكون من الممكن إدخالهم إلى مصر، مضيفاً: "كنت سأقوم فقط بتجريف منطقة في النقب، وسأحاول نقل الناس إلى هناك".

وقال كوشنر: "إنه وضع مؤسف إلى حد ما، ولو كنت مكان إسرائيل، لبذلت جهدي لنقل الناس ثم تنظيف القطاع، لا أعتقد أن إسرائيل صرّحت بأنها لا تريد أن يعود الناس إلى القطاع بعد الانتهاء من الحرب". وأوضح أن "الواجهة البحرية في غزة يمكن أن تكون ذات قيمة كبيرة، ويمكن استغلالها "إذا ركّز الناس على بناء سبل العيش".

ويقطع كلام ترامب، مع عقود من السياسة الأميركية الخارجية، التي تبنت رسمياً "حلّ الدولتين" للصراع، وهو ما تؤكده كلّ الدول العربية والإسلامية في المنطقة، وربطته السعودية أخيراً بأي تطبيع مع إسرائيل، فيما كانت الرياض قبل الحرب قد ألمحت إلى أن المشاورات من أجل التطبيع قد بلغت نقطة متقدمة. وجاء ذلك بينما كان بايدن يسعى لاستكمال ما بدأه ترامب في ولايته في هذا المسار، عبر انتزاع تطبيع يسوّقه في حملته الانتخابية لولاية ثانية، أو في حملة الديمقراطيين بالعموم. وجاء ذلك في وقت أيضاً، كان قد كشف في سبتمبر/أيلول 2023، خلال قمة العشرين التي انعقدت في نيودلهي، عن خطة نظر إليها باعتبارها محاولة أميركية لقطع الطريق على مشروع الحزام والحرير الصيني، عبر ما سمّي بـ"الممر (كوريدور) الاقتصادي الهندي الأوروبي الشرق الأوسطي"، ووقع على هامش القمة حينها، قادة كل من: الولايات المتحدة، الهند، السعودية، الإمارات العربية المتحدة، فرنسا، ألمانيا، إيطاليا، والاتحاد الأوروبي على مذكرة التفاهم الخاصة بهذا الممر الاقتصادي الجديد، قبل أن ينفذ مقاتلو "حماس" من كتائب القسام، عملية طوفان الأقصى. وخلال العدوان، شدّدت مصر والأردن، على رفضهما القاطع لمحاولة تهجير فلسطينيي القطاع إليهما، أو ما يردده اليمين المتطرف الإسرائيلي أيضاً عن خطط لتهجير سكّان الضفة إلى الأردن. وكان السيسي قد حذّر خلال الحرب من أن أي طرد للفلسطينيين من قطاع غزة إلى مصر، سيعني ببساطة طردهم من الضفة إلى الأردن، حيث لن يعود هناك جدوى من مناقشة حلّ الدولتين، فـ"الأرض ستكون موجودة، لكن الشعب لا". أما عمّان، فاعتبرت ذلك "خطاً أحمر"، علماً أن هناك حوالى 5.9 ملايين لاجئ فلسطيني خارج الأراضي المحتلة، موزعين على عدد من الدول العربية، أبرزها لبنان والأردن.

ولا يمانع ترامب، الذي يواصل منذ أسابيع الكشف عن نيّات إمبريالية جديدة لإدارته (يريد شراء جزيرة غرينلاند في أوروبا وضمّ كندا واستعادة السيطرة على قناة بنما)، فرض نكبة جديدة في غزة، ويشجع على استكمال الإبادة، من منطلق الأرض المحروقة وضرورة إعادة الإعمار. ويأتي ذلك بعدما سهّلت إدارة سلفه حرب الإبادة وتواطأت معها، وشاركت بها بالأسلحة والعتاد الذي وفّرته لدولة الاحتلال بجسر جوي لم ينقطع، في وقت كانت فيه إسرائيل تحاول تعبيد الطريق أيضاً لـ"شرق أوسط جديد" بعدوان على لبنان أضعف حزب الله، المدعوم من إيران، ومهدّ أيضاً لانهيار حليفه، نظام الأسد في سورية. ولم تكن إدارة بايدن قد تراجعت في الأساس عن إجراءات ترامب التي مرّرها في ولايته الأولى، رغم تصريحاتها العلنية بالعودة إلى السياسة التقليدية الأميركية حيال الصراع، إذ أبقت على نقل السفارة الأميركية في إسرائيل إلى القدس المحتلة، ولم تعد فتح مكتب منظمة التحرير في واشنطن، وواصلت محاولات استكمال مشروع التطبيع.

قراءة المقال بالكامل