المثل المصري الشهير يقول: "أسمع كلامك أصدقك... أشوف أمورك أستعجب"، وهو مثل يتردد عندما يرى الشخص أمامه واقعاً يخالف الأقوال والسلوكيات الشخصية، ويُستدعى المثل للتعليق على الأرقام الرسمية المبالغ فيها، أو عندما يتحدث مسؤول بارز عن أن الاقتصاد يشهد معدلات نمو غير مسبوقة، وتحسناً كبيراً في المؤشرات، وأن الأسواق تشهد انتعاشاً قوياً، وتوافراً في كل السلع والخدمات، وأن المواطن يعيش في رغد من العيش وحياة وردية، أما الواقع فيقول إن الاقتصاد يعاني من حالة ركود وربما كساد مزمنة، وأن الأسواق تشهد اضطرابات وحالة ارتباك مزمنة واختناقات في السلع، وأن المواطن يعاني الأمرين في تدبير أموره المعيشية والحصول على احتياجاته من السلع بأسعار تناسب قدرته الشرائية.
المثل الشعبي يمكن استدعاؤه مباشرة عندما تطالع الأرقام الرسمية الصادرة في مصر اليوم الاثنين والتي تتحدث عن تهاوي معدل التضخم وتراجعه بشكل حاد تجاوز 50% مرة واحدة، حيث أظهرت بيانات الجهاز المركزي للتعبئة العامة والإحصاء أن التضخم السنوي لأسعار المستهلكين في المدن المصرية تراجع إلى 12.8% في فبراير/ شباط الماضي مقابل 24% في يناير/ كانون الثاني متباطئا بوتيرة أسرع مما توقعه المحللون وبنوك الاستثمار، علماً بأن هذا المعدل هو الأدنى منذ اندلاع حرب أوكرانيا في فبراير 2022.
هناك من يربط بين توقيت الإعلان عن تهاوي معدل التضخم واجتماع صندوق النقد الذي ينعقد اليوم في واشنطن لبحث الإفراج عن الشريحة الرابعة من قرض الصندوق
لكن في المقابل فإن الواقع يقول شيئاً آخر وفق حال المواطن والواقع وحركة الأسواق، فهناك زيادات متواصلة في الأسعار تفاقمت حدتها في الأيام التي سبقت شهر رمضان، وهي الأيام الواقعة في شهر فبراير، صاحب قفزات الأسعار زيادة في سعر الدولار مقابل الجنيه، وارتفاع في تكاليف الإنتاج والرسوم الحكومية وتكاليف المعيشة، بل إن أسعار الأغذية والمشروبات زادت خلال الشهر بنسبة 3.7% بشهادة الأرقام الرسمية. كما أن رجل الشارع لم يشعر بحدوث تلك التراجعات الحادة في أسعار السلع خلال الشهر الماضي.
هناك من يربط بين توقيت الإعلان الحكومي عن تهاوي معدل التضخم واجتماع صندوق النقد الدولي الذي ينعقد اليوم في العاصمة الأميركية واشنطن لبحث الإفراج عن الشريحة الرابعة من قرض الصندوق، فالجهات الرسمية ربما تبعث عبر الرقم الجديد برسالة للمؤسسة المالية مضمونها "لقد تراجع التضخم بنسبة تزيد عن 50% الشهر الماضي، فلا داعي للحديث عن سعر الفائدة السلبية ومخاطرها على المدخرين والمستثمرين، أو ممارسة ضغوط لرفع الفائدة على الجنيه وخفض قيمة العملة المحلية مرة أخرى، ولا داعي لرفع شماعة تتعلق بمخاوف هروب الأموال الساخنة في حال خفض الفائدة، لأن الأسعار الحالية إيجابية وتفوق نحو 2.5 ضعف معدل التضخم الرسمي".
واللافت هنا أن تهاوي معدل التضخم يأتي في الوقت الذي يعاني فيه الاقتصاد والأسواق ضغوطاً خارجية مثل تداعيات حرب غزة، ومخاطر منطقة الشرق الأوسط، والحرب التجارية التي يشنها الرئيس الأميركي دونالد ترامب على الصين وكندا والاتحاد الأوربي والتي ستؤدي إلى حدوث زيادة في الأسعار داخل الأسواق الدولية، كما تسبق أرقام التضخم تطبيق الحكومة الحزمة الاجتماعية الجديدة التي قد تصاحبها زيادات في أسعار الوقود والكهرباء والمياه وغيرها من المنافع العامة والرسوم الحكومية.
وبعيداً عن تلك التفسيرات فإن هناك أسبابا منطقية وأسسا اقتصادية وراء قفزات التضخم الأساسي الذي تجاوز 38% في سبتمبر/ أيلول 2023، منها مثلا زيادة سعر الدولار لأكثر من 50 جنيهاً، وخفض الدعم الحكومي لسلع وخدمات أساسية، والزيادات المتواصلة في أسعار البنزين والسولار والغاز المنزلي والمياه والكهرباء والصرف الصحي والسلع الغذائية والمواصلات والإيجارات والاتصالات وغيرها من تكاليف الحياة.
هل نجد لذلك ترجمة عملية على أرض الواقع. مثلاً تتراجع أسعار السلع إلى النصف في الأسواق كترجمة لتهاوي التضخم، أم لا تزال الأسعار على حالها، والمواطن يئن من قفزات الأسعار المتواصلة؟
ومن بين الأسباب كذلك التضييق الشديد على الواردات من الخارج لتخفيف الضغط على النقد الأجنبي وتقليص عجز الميزان التجاري، وتوسع البنك المركزي في طباعة البنكنوت، والنمو السريع في المعروض النقدي داخل الأسواق، حيث تظهر بيانات البنك أن المعروض النقدي (ن2) زاد بأعلى نسبة على الإطلاق بلغت 32.1% في عام حتى نهاية يناير/ كانون الثاني، وهو ما يعني الافراط الشديد في طباعة البنكنوت رغم مخاطره الشديدة.
فهل اختفت تلك العوامل حتى يتهاوى معدل التضخم إلى 12.8% في نهاية فبراير الماضي؟ أم أن التهاوي جاء بسبب حالة الركود التضخمي التي تمر بها الأسواق المصرية منذ شهور طويلة وأدت إلى حدوث تراجع حاد في الطلب على السلع مع تهاوي القدرة الشرائية للمواطن؟ أم أن تلك الأرقام الرسمية لا يعكسها الواقع على الأرض، بل ويتناقض معها؟
حسناً، تراجع مستوى التضخم ونسب غلاء الأسعار بهذا الشكل الحاد كما تقول الأرقام الرسمية، وتنفست الحكومة الصعداء، وربما تخف ضغوط صندوق النقد من زاوية التضخم، وأيا كانت الأسباب الحقيقية لتهاوي المعدل، فهل نجد لذلك ترجمة عملية على أرض الواقع. مثلاً، أولا تتراجع أسعار السلع إلى النصف في الأسواق كترجمة لتهاوي التضخم، أم لا تزال الأسعار على حالها، ولا يزال المواطن يئن من القفزات المتواصلة منذ سنوات طويلة؟
ومثلاً ثانيا، يخفض البنك المركزي المصري أسعار الفائدة إلى النصف بحيث يعطي للموازنة العامة والدين العام المحلي متنفساً من تكاليف أسعار الفائدة المرتفعة والمرهقة، وهل يقوم المركزي بإجراء خفض حاد في سعر الفائدة في أول اجتماع للجنة السياسة النقدية، أم وقتها تخرج علينا نظريات "الهبوط الناعم والسلس" ومخاطر الهبوط الحاد للفائدة، وأهمية أن يحدث خفض الفائدة بشكل تدريجي حفاظا على استقرار الأسواق والبنوك، لكن الحقيقة تقول إن السبب الحقيقي للتأني في قرار خفض الفائدة بشكل حاد هو الحفاظ على رضا المستثمرين الأجانب وأصحاب الأموال الساخنة والذين باتوا يلعبون الدور الأبرز في الدعم الحالي لاستقرار سوق الصرف الأجنبي في مصر وعدم انزلاق الجنيه لمستويات متدنية؟
