تيسير البطنيجي... مفاتيح غزّية مُودعَةٌ في بيروت

منذ ٢ شهور ٣٧

بعد أن رأت النور لأوّل مرّة في الدورة السابعة عشرة من "بينالي ليون"، والتي اختُتمت في الخامس من الشهر الجاري، ترتحل صُور مفاتيح أكثر من مئتي بيت من بيوت أهل غزّة من المدينة الفرنسية إلى بيروت، ليُقدّمها صاحبُها الفنّان الفلسطيني المُقيم في باريس تيسير البطنيجي (1966) في معرضه الجديد "من باب الاحتياط"، الذي افتُتح في التاسع من الشهر الجاري في "غاليري صفير- زملر"، ويتواصل حتى التاسع والعشرين من آذار/ مارس المُقبل.

يُقدِّم البطنيجي في المعرض سلسلة صُور تعود لسكّان غزّة، وكلُّ مجموعة مرتبطة بمكان وشخص مُحدّدين، تُعرِّف بهما المقاطع النصّية المكتوبة بخطّ اليد أسفل الصور، في محاولة لاستحضار السرديات الفردية الصُّغرى لشعب واجه الإبادة والموت طيلة أكثر من 460 يوماً.

كلُّ مفتاح يُعرِّف بحكاية إنسان غزّي كتبها بخطّ يده

بدايةً، يستعيد ابنُ مدينة غزّة علاقته الأُولى مع المفاتيح، والمتمثّلة بالتجهيز الفنّي الذي نفّذه عام 1997، ومن خلاله يُقرّر أن يستقبل زوّاره في الغاليري البيروتي. هذا التجهيز مُستلهَمٌ من قصيدة "أحمد الزعتر" لمحمود درويش، والقصيدة مُرفقة بالمعرض ومكتوبة على ورقة فوق مجموعة من المفاتيح الملفوفة بالقماش، والصدأ العميق قد تركَ أثره عليها. كأنّ البطنيجي بهذا يُوطِّئ من خلال استعادة الرمزية الأُولى قبل أن يُفصح عن جديدِه، إذ يُوجِّه، قبل أيّ شيء، تحيّةً للنازحين الفلسطينيّين الأوائل الذين اقتلعتهم العصابات الصهيونية في نكبة 1948، في تأكيد للمؤكَّد وتدقيق في فصول المأساة منذ بداياتها.

أمّا العمل المركزي، والذي يحمل المعرضُ اسمه، "من باب الاحتياط"، فيواجه الزائرَ حين دخوله إلى صالة العرض البَعيدة في تصميمها عن التعقيد، وقد أُنجِز هذا العمل خلال عام 2024. وهنا نلحظُ تحوّلاً عميقاً بتصميم المفاتيح بين العملين الأوّل والثاني، اللذين تفصل بين تنفيذهما سبعةٌ وعشرون عاماً. في الأوّل يبدو المفتاح كبيراً، وإن كُنّا لا نراه كونه ملفوفاً بقماشة، ومطابقاً للصورة الكلاسيكية عن مفاتيح البيوت التراثية، التي ما زال بعضُها قائماً بالفعل في حيفا ويافا لكنّ مستوطنين أوروبيّين قد اغتصبوها من أهلها، أمّا في الثاني، فالمفتاح صغير في حجمه، كمفاتيح الشقق الحديثة. المفتاح الأوّل مُهجَّر مُقتلَع يبحث عن عودة، في حين أنّ الثاني مُفتّت مسحوق كما أُبيد جسدُ صاحبه، وفي كِلَا الحالتين ما زلنا ضمن مسيرة نضال فلسطيني واحدة إنّما بفصول عديدة.

التقت "العربي الجديد" بصاحب معرض "دوام الحال من المُحال" (الدوحة، 2022) الذي وضّح: "أُنجزت المجموعات الثلاث بين عامَي 2022 و2024، أمّا المفاتيح التي نراها قبالتنا فأصحابُها إمّا هُجِّروا أو قُتلوا على يد الاحتلال الإسرائيلي، في الوقت الذي دُمِّرت فيه بيوتهم بالكامل. في البداية أخذتُ أُراسل الأصدقاء والمقرّبين الذين راحوا يبعثون لي بصور المفاتيح، وشيئاً فشيئاً بدأت المادّة تكبر بحيث يُمكن لها أن تُشكّل رمزية فنّية معيّنة".

من العبارات التي نقرأها تحت المفاتيح: "بشرى أحمد أبو بنات، من سكّان بيت لاهيا شمال مدينة غزّة، تعرّض منزلُها للقصف في 23 إبريل 2024، ممّا أدّى إلى استشهاد خمسة من أفراد عائلتها"، و"نور البطنيجي، ابنة إبراهيم، من سكّان حي الصبرة، نزحت في 23 أكتوبر 2023 إلى خان يونس، ومن ثم إلى المواصي والزوايدة ورفح، تمكّنت من المغادرة إلى القاهرة مع عائلتها في 15 يناير 2024". نجد، أيضاً، صورة لمجموعة مفاتيح تعود لصاحب المعرض نفسه، وقد خُطّ تحتها: "كلّ ما تبقّى اليوم هو كومة من الأنقاض".

والجدير بالذكر أنّه في السابع عشر من تشرين الثاني/ نوفمبر 2023، ألقت طائرات الاحتلال الإسرائيلي أربع قنابل على منزلٍ في حيّ الشجاعية، كان قد احتمى فيه أكثر من مئة شخص من آل البطنيجي وجيران لهم، مُرتكبةً مجزرة دموية تُضاف إلى سجلّ "إسرائيل" الوحشي، إذ لم ينجُ من هؤلاء المدنيّين العُزّل سوى أقلّ من نصفهم تقريباً. أمّا التشكيلي باسل المقوسي الذي ما زال في غزّة إلى اليوم، فكتب تحت صورة المفاتيح الخاصّة به فصول رحلة اللجوء التي تكرّرت منذ 7 تشرين الأوّل/ أكتوبر 2023 أكثر من عشر مرّات، ومن بينها نزوح إلى مُحترف "شبابيك" الفنّي الذي أسهم المقوسي في تأسيسه، قبل أن يدمّره العُدوان في 29 آذار/ مارس 2024.

استمرارٌ لأسلوبه في قراءة علاقة الأشخاص بالأمكنة

المجموعة الأُخرى التي يتضمّنها المعرض هي "ألوان مشرّدة" المنجزة بقلم الباستيل، وفيها يوثّق البطنيجي ما يُصادفه من آثار لعابري السبيل، وهذا يُذكّر بمشروع سابق له بعنوان "تشويش" صدر على هيئة مطبوعة العام الماضي، وهي مجموعة من الصُّور التُقطت من خلال "واتساب"، بين عامَي 2015 و2017، حين كان يتقطّع الاتصال بسبب ضعف التغطية، بينما كان يتحدَّث إلى والدته وعائلته في غزّة. ونلاحظ في هذه الأعمال ملامح تجريبية قويّة، تُقدّم أعمالاً مُنسجمة رُغم أنّ آليّة تنفيذها عشوائية وتركن على الصُّدفة والاحتمال.

لكن في العموم لا يبني البطنيجي على الصور الفوتوغرافية "المُبَكسَلة"، كما في "تشويش"، بل على التلوين العادي. يقول لـ"العربي الجديد": "هذه أعمال تقوم على مفهوم الانقطاع، ولا تُعبّر بالضرورة عن حالة الترابط، فأحياناً نُخرج هواتفنا من جيوبنا فنجدها قد التقطت صوراً عشوائية، حالة التجريد هذه أستعيرُها في أعمالي وأُعيد تأطيرها فنّياً من خلال قلم الباستيل. هنا لا داعي لأن نتكلّم في السياسة مباشرةً، فقط ندع نظرتنا للأشياء تتولّى الأمر. إنها إشارة إلى المنطقة الفاصلة ما بين الواقع والخيال، وبين المادّي واللامادّي، وبين الحضور والغياب. أمامنا ملامح يُمكن ولا يمكن التعرّف عليها".

ويتابع: "أمّا الجدار الأخير فاستخدمتُ في إنجاز لوحاته أقلاماً وجدتها مرميّة في شوارع باريس، قمتُ بجمعها وإعادة استخدامها من جديد، لكن بشرط ألّا أستخدم في اللوحة الواحدة سوى قلم واحد، وبالتالي ينتهي الرسم حيثُ لا يُمكن بريُ القلم مجدّداً، وبهذا نُصبح أمام لوحة تتوقّف على نحو طبيعي. كذلك احتفظتُ ببقايا الأقلام المَبريّة في كيس يُعرض بدوره كعمل فنّي إضافي". 

ويختم الفنّان الفلسطيني حديثه إلى "العربي الجديد" بالقول: "في كلّ مرّة آتي إلى بيروت أشتمُّ رائحة مسقط رأسي، غزّة، ولكن هذه المرّة الأمرُ مضاعف بُحكم أنّ بيروت خارجة من حرب صهيونية مُدمِّرة خلّفت آلاف الشهداء، وهي اليوم تُحاول ترميم روحها بعد معاناة طويلة مع التوحُّش الإسرائيلي. ولا شكّ في أنّ محاورة الناس بعد أن يستردّوا شرط العيش الكريم ببلدهم بلا عُدوان خارجي هو همٌّ من هموم الفنّ أيضاً، وإنْ بشكلٍ عام، كما أنّ هذه المصادفات التي توازت مع افتتاح المعرض، كاختيار رئيس للجمهورية، تَعني لي الكثير. ولعلّها إشارة للبدء من جديد، وعسى أن يكون يومٌ قريب مثلَه لفلسطين بعد أكثر من عام على الإبادة".

بهذا يستكمل معرض "من باب الاحتياط" - رغم التأطيرات المابعد حداثية الواضحة التي يُمكن أن تندرج ضمنها أعمال البطنيجي - الربطَ الحميمي الرقيق الذي اجترحه الفنّان وميّز أسلوبه في قراءة علاقة الأشخاص بالأمكنة، من خلال المفردات البصرية الهادئة، والتي تُشبه طريقة كلام صاحبها وهو يشرح للزوّار بصوت وئيد ما تعنيه كلُّ صورة، وطالعتنا في أعماله السابقة سواء حول ثيمة البيوت مثل معرضه "من غزّة إلى أميركا: بيتٌ بعيد عن البيت" (2018)، أو ثيمة الشهداء مثل "جُدران غزّة" (2001) و"إلى أخي" (2012).
 

قراءة المقال بالكامل