تشهد دولة جنوب السودان توترات عسكرية وسياسية متواصلة بين شريكي السلطة الرئيس سلفاكير ميارديت ونائبه الأول رياك مشار، بلغت ذروتها في الأيام الأخيرة، نتيجة مواجهات مسلحة في ولاية أعالي النيل في الشمال، بين القوات الحكومية وقوات محسوبة على الحركة الشعبية في المعارضة التي يقودها مشار. وتثير هذه التوترات المخاوف بشأن مستقبل الدولة، خصوصاً أن جنوب السودان على موعد مع انتخابات مقررة في ديسمبر/كانون الأول 2026، ستكون الأولى منذ انفصال البلاد عن السودان في عام 2011، وسط تحذيرات من الانزلاق إلى أتون صراع مسّلح جديد وانهيار اتفاق السلام الهشّ الذي يرتكز عليه الاستقرار النسبي حالياً، بعد توقف الحرب الأهلية بين الطرفين والتي دارت رحاها بين عامي 2013 و2018.
وانفصل جنوب السودان عن السودان عبر استفتاء شعبي في 2011، وعرف منذ عام 2013 حرباً أهلية بين القوات الحكومية والمعارضة أخذت بعداً قبلياً، إذ أصبح مشار عقب الانفصال نائباً لرئيس الدولة الوليدة، ثم أقاله سلفاكير في عام 2013 بتهمة "تدبير انقلاب"، وأدّى ذلك إلى اندلاع قتال بينهما ثم تحول إلى صراع بين قبيلتيهما، الدينكا والنوير. وبعد عامين من القتال، وقّع الطرفان اتفاق سلام بوساطة أفريقية، وعاد مشار إلى موقعه نائباً لرئيس دولة جنوب السودان، ولكنه لم يبقَ فيه إلا أشهراً قليلة، فقد عزله تعبان دينغ، أحد قادة حركته، من رئاسة الحركة، وإثر ذلك أقدم سلفاكير على إحلال دينغ محل مشار، ما أدى إلى تجدد الحرب الأهلية، التي استمرت حتى عام 2018، عندما وقّع الطرفان اتفاق سلام آخر ظلّ من دون تنفيذ، تلاه مرة أخرى ما عرف "باتفاق السلام المنشط 2019" والذي يواجه حالياً تهديداً بسبب الأحداث الجارية.
جنوب السودان... توترات جديدة
واندلعت التوترات الأخيرة، عندما هاجمت مجموعة مسّلحة تسمى "الجيش الأبيض"، وهي مليشيا محسوبة على مشار، مدينة الناصر في ولاية أعالي النيل، وردّت الحكومة بحملة اعتقالات طاولت عدداً من الجنرالات والوزراء من الحركة الشعبية لتحرير السودان المعارضة، بقيادة مشار (من بينهم وزير بناء السلام إستيفن فار).
اندلعت التوترات الأخيرة، عندما هاجمت مليشيا "الجيش الأبيض" المحسوبة على مشار، مدينة الناصر
وبحسب مصادر تحدثت لـ"العربي الجديد" في جنوب السودان، فإن المشكلة تفجرت بداية العام الحالي، بعدما طالبت القوات الحكومية في الناصر، بتبديلها عقب مكوثها هناك لأكثر من 12 عاماً، فقررت لجنة مراقبة وقف إطلاق النار والترتيبات الأمنية في اتفاقية السلام، التقصي، ووجهت بتبديل القوات، لكن الحكومة حاولت إرسال قوات أخرى غير القوات الموحدة التي يفترض أن يتم نشرها بحسب اتفاقية السلام، ما تسبب في مهاجمة مليشيا "الجيش الأبيض" للقوات الحكومية بقيادة الجيش في الناصر. وخلال الهجوم، تمّت محاصرة قائد الجيش في المنطقة اللواء مجور داك وعدد من الجنود، قبل أن تتدخل بعثة الأمم المتحدة في جنوب السودان (أونميس) يوم الجمعة الماضي، لإجلاء المحاصرين، عقب حصولها على موافقة وضمانات من الطرفين، لكن العملية فشلت بعد هجوم المسلحين على عملية الإجلاء ومقتل قائد الجيش مجور داك وعدد من جنوده. وقال وزير الإعلام مايكل مكوي لويث، إن قائد الجيش بمنطقة الناصر اللواء مجور داك، و27 من جنوده، قتلوا خلال عملية إجلاء للأمم المتحدة في الناصر.
بدورها، أصدرت بعثة الأمم المتحدة في جنوب السودان (أونميس) بياناً، يوم الجمعة الماضي، أعلنت فيه أن مروحية تابعة للأمم المتحدة كانت تقوم بعملية إجلاء في منطقة الناصر بولاية أعالي النيل، تعرضت لإطلاق نار، ما أسفر عن مقتل أحد أفراد الطاقم وإصابة اثنين آخرين بجروح خطيرة. وأفادت البعثة بأن العديد من أفراد قوات الدفاع الشعبي لجنوب السودان (الجيش الحكومي)، بمن في ذلك جنرال، قتلوا أثناء محاولة البعثة إخراجهم من المنطقة، والتي تمّت بناء على طلب جميع الأطراف. ولفتت إلى أن الإخلاء كان جزءًا من جهودها للمساعدة في منع العنف في منطقة الناصر وتهدئة التوترات السياسية في أعقاب الاشتباكات الأخيرة بين قوات الدفاع الشعبي لجنوب السودان والمسلحين والتي تسببت في سقوط عدد كبير من الضحايا ونزوح مدنيين.
وقال رئيس البعثة، نيكولاس هايسوم في البيان: "الهجوم على أفراد بعثة الأمم المتحدة في جنوب السودان أمر بغيض للغاية وقد يشكل جريمة حرب بموجب القانون الدولي. إننا نأسف بشدة للخسارة المأساوية لزميلنا ونعرب عن خالص تعازينا لأحبائه". وأعرب عن الأسف أيضاً لمقتل "أولئك الذين كانت البعثة تحاول إجلاءهم وخصوصاً بعد تلقي ضمانات بالمرور الآمن". وأضاف: "تحث بعثة الأمم المتحدة في جنوب السودان على إجراء تحقيق لتحديد المسؤولين ومحاسبتهم".
ودعت البعثة جميع الجهات الفاعلة إلى الامتناع عن المزيد من العنف، كما دعت قادة البلاد إلى التدخل بشكل عاجل لحلّ التوترات من خلال الحوار وضمان عدم تدهور الوضع الأمني في الناصر، وعلى نطاق أوسع. وأضافت أنه "من الأهمية بمكان أن تلتزم الأطراف بتعهدها بالحفاظ على وقف إطلاق النار وحماية سلامة اتفاق السلام".
وعقب تصاعد الأحداث، ألقى رئيس جنوب السودان سلفاكير ميارديت خطاباً يوم الجمعة الماضي، شدّد خلاله على عدم العودة للحرب مرة أخرى، مؤكداً التزام حكومته بمعالجة الأزمة الحالية من أجل السلام. وأضاف أنهم كانوا عقدوا اجتماعاً مع مشار قدّم خلاله ضمانات للأطراف بالتدخل، ولكن الهجوم تمّ على الجيش في مدينة الناصر من قبل "الجيش الأبيض" وبقيادة ضباط من الحركة الشعبية في المعارضة، بحسب اتهاماته، مشيراً إلى أن مشار طلب من قائد الجيش في الناصر اللواء مجور داك الاستسلام، ولكن الأخير رفض.
من جهته، أصدر مكتب رياك مشار بياناً في اليوم ذاته، أعرب فيه عن أسفه العميق لفقدان الأرواح ودان ما وصفه بالعمل الوحشي، معزّياً أسرة اللواء مجور داك، وأسر 10 من ضباط الحركة الشعبية في المعارضة، وأسرة القتيل من طاقم البعثة الأممية، والذين قتلوا بالهجوم، معتبراً أن "هذه المأساة تؤكد الحاجة الملحة إلى مواصلة جهود تهدئة التصعيد والحوار لمنع المزيد من العنف". وأشار مكتب مشار إلى أن "الجهود الرامية إلى تهدئة التصعيد واستعادة السلام ستظل على رأس الأولويات بالنسبة إليهم"، وأن النائب الأول للرئيس "مستمر في إشراك جميع أصحاب المصلحة لمنع المزيد من العنف في البلاد".
واعتقلت السلطات أخيراً عدداً من المسؤولين في الحركة الشعبية المعارضة التي يقودها مشار. وقال المتحدث باسم جهاز الأمن الوطني ديفيد جون كوميري في مؤتمر صحافي، يوم السبت في 8 مارس/آذار الحالي، إن لديهم أدلة على تورط "المعتقلين" من حركة مشار في تأجيج الصراع في منطقتي الناصر وأولانق، وأن حملة الاعتقالات ستستمر إذا جمعوا أدلة أخرى ضد أي شخص آخر، لافتاً إلى أن اتفاق السلام المنشط "ليس فوق القانون" و"مهما كان منصبك هذا لا يعني أن تمس الأمن الوطني". ويوم أمس الاثنين، دعا الجيش في جنوب السودان، الضباط العسكريين التابعين للحركة الشعبية في المعارضة بقيادة مشار، للعودة إلى العمل، بعد تقارير أفادت بأن بعضهم اختبأ في أعقاب الاشتباكات الأخيرة في الناصر بولاية أعالي النيل، وفق الإعلام في جنوب السودان.
باطومي أيول: التوترات الأخيرة هي نتاج عدم تنفيذ البنود المتعلقة بالترتيبات الأمنية في اتفاقية السلام على مدار السنوات السبع الماضية
يذكر أن الولايات المتحدة أصدرت في 9 مارس، توجيهات لموظفيها غير الأساسيين، بمغادرة عاصمة جنوب السودان، جوبا، على الفور، متحدثة عن زيادة في الجريمة والاختطاف والصراع المسلح. وجاء في التحذير من السفر، أن القتال مستمر، وأن "الأسلحة متاحة بسهولة للسكان"، مذكّرة بأن "لديها قدرة محدودة على تقديم الخدمات القنصلية الطارئة للمواطنين الأميركيين في جنوب السودان".
ومساء أول من أمس الأحد، بحث رئيس مجلس السيادة في السودان، قائد الجيش عبد الفتاح البرهان، في اتصال هاتفي، مع رئيس جنوب السودان سلفاكير ميارديت، تطورات الأوضاع في جنوب السودان، وقال مجلس السيادة في بيان، إن البرهان "اطمأن" في الاتصال "على مجمل الأوضاع في جنوب السودان، عقب الأحداث التي شهدتها البلاد، وأكد حرص الحكومة السودانية على استدامة الأمن والاستقرار في جنوب السودان"، فيما عبّر سلفاكير، عن "التزامه بالعمل على تعزيز التعاون المشترك بين البلدين"، وأكد "حرص حكومة جنوب السودان على بسط الأمن والاستقرار وعودة الأوضاع الأمنية إلى طبيعتها" في بلاده. كما أعربت الأمم المتحدة ومفوضية الاتحاد الأفريقي في بيانين منفصلين، عن قلقهما إزاء التوترات والاشتباكات المتزايدة في جنوب السودان.
مدخل لتوسع الحرب
وتعليقاً على الأحداث المستجدة، رأى الصحافي الجنوب سوداني باطومي أيول، أنه "على الرغم من مناشدة العديد من الجهات والمنظمات الدولية وبعثة الأمم المتحدة في جنوب السودان بأن لا تكون هذه الأحداث مدخلاً لاندلاع حرب واسعة، ومطالب أطراف الاتفاقية بأن يكونوا على قدر المسؤولية، إلا أن هذه الأحداث سوف تنعكس على قضايا الاستقرار في جنوب السودان، لأن التوترات الأخيرة هي نتاج عدم تنفيذ البنود المتعلقة بالترتيبات الأمنية في اتفاقية السلام على مدار السنوات السبع الماضية".
وأضاف أيول، في حديث لـ"العربي الجديد"، أن القيادة مطالبة بالتعامل بالحكمة، وأن لا تنجر نحو الحرب، وهذا ما أشار إليه الرئيس سلفاكير في خطابه عشية أحداث الناصر، والتي تم فيها قتل قائد المنطقة، إذ أكد ضرورة عدم جرّ البلاد إلى الحرب والتزامه بتحقيق السلام والحفاظ على هذا الاستقرار النسبي. ورأى أن التطورات الأمنية لها مساراتها وعدم تدخل القيادات سوف ينعكس سلباً على حال البلاد برمتها، كما أن هناك ضرورة لتدخل منظمة "إيغاد" (الهيئة الحكومية للتنمية وهي مجموعة اقتصادية إقليمية تعمل على التنمية بين بلدان شرق أفريقيا)، والضامنين لاتفاق السلام المنشط والشركاء لإنقاذ الوضع.
وتأسس "الجيش الشعبي لتحرير السودان" في عام 1983 بما هو نواة للقوات التي قادت تمرداً ضد الحكومة المركزية في الخرطوم، تحت قيادة الحركة الشعبية لتحرير السودان باعتبارها الجناح السياسي للمتمردين، واستمر الجيش الشعبي بذات الاسم إلى أن تمّ تغييره إلى "قوات الدفاع الشعبية لجنوب السودان" في أكتوبر/تشرين الأول 2018. ويوالي عدد من الضباط والجنود في الجيش الحكومي، مشار، وتدعمه مجموعات مسلحة ومليشيات قبلية بأسلحة معظمها خفيفة، بينما يقود سلفاكير الجيش الحكومي الذي يمتلك مجموعة من الدبّابات والمدرعات والمروحيات وتعود معظم الآليات إلى الصناعة السوفييتية القديمة. وخلّف النزاع في جنوب السودان بعد انفصاله حوالي 400 ألف قتيل، بحسب أرقام أممية. كما أن الوضع الإنساني لا يزال بدوره هشّاً جداً، إذ أعلنت الأمم المتحدة في نوفمبر/تشرين الثاني 2024، أن حوالي 7.7 ملايين شخص في جنوب السودان، أي ما يناهز 60% من سكّان هذا البلد الذي يعاني من الكوارث المناخية أيضاً، معرضون لسوء تغذية حاد خلال العام الحالي. وجنوب السودان، هو من أفقر دول العالم، وتدهورت الأوضاع أكثر بسبب أسوأ فيضانات تشهدها المنطقة منذ عقود ووصول أعداد كبيرة من اللاجئين من السودان المجاور الذي يعيش حربا.
واعتبر المحلل السياسي السوداني حاتم درديري، في حديث لـ"العربي الجديد"، أن التوتر الحالي يعود للهجوم على مدينة الناصر من قبل مليشيا "الجيش الأبيض"، وهو ليس بجديد، بل حصلت مناوشات عدة سابقة بين الجيش الشعبي الحكومي وقوات المعارضة المسلحة خلال الفترة الانتقالية لاتفاقية السلام المنشطة. وأضاف أنه نتيجة للخلافات بين شريكي الاتفاقية المنشطة للسلام، ومع انسداد الأفق بينهما، حاول الجيش الحكومي تبديل قواته في الناصر بقوة جديدة لتهدئة الأوضاع، إلا أنه نتيجة للخلافات، تعقدت المسألة بعدما راجت شائعات في المدينة مفادها بأن القوات الجديدة المراد إحلالها تنوي نزع السلاح من قوات المعارضة، ما قاد إلى المواجهات العسكرية.
وذكر درديري أن اتفاقية السلام المنشطة التي وُقعت عام 2018 نصّت على دمج قوات الحركة الشعبية في المعارضة في الجيش الشعبي الحكومي، وتمّ توزيع منتسبي قوات المعارضة المسلحة في كافة الأجهزة الأمنية، من جهاز الأمن والمخابرات والشرطة، ولكن ظلت قوات المعارضة المسلحة خارج نطاق الجيش الرسمي، ووقعت خلافات عدة حول تنفيذ بند الترتيبات الأمنية وتفسيرها، وبسبب ذلك تمّ تمديد الفترة الانتقالية ثلاث مرات، والتي كان ينبغي أن تنتهي في عام 2022، وتمّ تمديدها حتى 2027.
ورأى المحلّل السياسي السوداني أن التأخير في معالجة بند الترتيبات الأمنية، هو ما أوصل الاتفافية إلى هذا التوتر، ولأن الشريكين لم يعملا منذ البداية على دمج قوات المعارضة في الجيش الحكومي. وقال: "رغم ذلك تعهد الرئيس سلفاكير بعدم العودة للحرب، لكن ذلك مرتبط بشكل أساسي بتدخل منظمة إيغاد والسودان الراعي للسلام في جنوب السودان، من أجل نزع فتيل التوتر الذي جرى في مدينة الناصر".
