عود على بدء في الأزمة الممتدة لعقود في جمهورية الكونغو الديمقراطية: مواجهات ومعارك ونهب وسرقة وإراقة دماء، وتنديد أممي وتدخل دولي وإقليمي دبلوماسي، في مجهود متواصل للتهدئة بمنطقة البحيرات العظمى، في شرق أفريقيا، حيث تختلط رواسب الصراعات الإثنية والعرقية منذ قرون، مع تلك التي أحدثها الاستعمار، والتي خلّفت مطامع محلية بالجملة، ومذبحة جماعية في رواندا لا تزال المنطقة تدفع أثمانها حتى اليوم، إذ سمحت لذرائع عدة ومصالح متداخلة باستثمار تاريخ أسود في فصول متتالية من الحروب، التي لم تهدأ بعد، وتهدّد اليوم بسقوط الكونغو الديمقراطية وتغيير الحكم فيها، بيد خليط من "المتمردين".
خليط دموي في ثاني أكبر بلد أفريقي من ناحية المساحة بأكثر من 2.3 مليون متر مربع، وأحد أغنى بلدان القارة بالموارد الطبيعية، في مقابل أحد أصغر بلدان القارة، رواندا، بنحو 26 ألف كيلومتر مربع، وهو ما لا يترجم بتاتاً في موازين القوى. فترى رواندا البلد الصغير يحتل عبر مليشياته أراضي عملاقة من البلد الجار، وسط ردّ فعل دولي "ناعمة" حيال رواندا التي يتم الترويج لها، زوراً، على أنها واحة أفريقية في حقوق الإنسان، وهو ما تكذبه الوقائع، إذ إن النمو الاقتصادي المتحقق منذ ما بعد الإبادة الجماعية (1994) لم يترافق مع اتساع رقعة حقوق الإنسان والديمقراطية.
جهود دولية خجولة لتهدئة حرب الكونغو
ولا يُمكن فهم الأحداث الدائرة اليوم في شرق الكونغو الديمقراطية، حيث لا تزال جهود التهدئة الدولية خجولة، بمعزل عن لعنة التاريخ، وعن عقود من الصراع، خلّف مئات آلاف القتلى وملايين من النازحين. في هذا الصراع، بفصله الجديد الذي فُتح منذ أسبوع مع تقدم متمردي حركة "23 مارس" في شرق الكونغو الديمقراطية، وسيطرتها أولاً على مدينة غوما الاستراتيجية، عاصمة إقليم شمال كيفو، لا تزال رواندا اللاعب الأساسي، برئيسها بول كاغامي، الحاكم منذ عام 2000، والذي يضغط هذه المرة لانتزاع تنازلات كبيرة من كينشاسا، ورئيسها فيليكس تشيسكيدي، الحاكم منذ عام 2019.
تتمسك رواندا ودول أخرى تقف إلى جانبها في منطقة الجوار، بضرورة أن تتحاور كينشاسا مع المتمردين، وربما تقاسم السلطة والموارد
ويستفيد كاغامي، بدعمه المتواصل لمتمردي الكونغو الديمقراطية، في الدورة الجديدة من الصراع، من ظروف دولية مساعدة، بخلاف العام 2012، حين دخل مقاتلو "23 مارس" غوما أيضاً، واضطر الرئيس الرواندي إلى التراجع أمام حجم الضغط الدولي، وسيف العقوبات. ويرى مراقبون، مع التقدم الجديد، الذي يهدّد أصحابه بالوصول إلى كينشاسا (وقد لا يكون ذلك ما تريده كيغالي بالضرورة)، أن المجتمع الدولي، غير محبذ لمعاقبة رواندا على تدخلها المستجد. ففرنسا الغارقة في مشاكلها الأفريقية، وانسحابها (أو طردها) من المنطقة، لا تزال تحتفظ ببعض العلاقات الطيبة مع دول منطقة البحيرات العظمى، ومن بينها رواندا والكونغو الديمقراطية، في وقت لم ترسم الولايات المتحدة برئاسة دونالد ترامب، بعد، سياستها للمنطقة، وهي تبدو غير مبالية بالصراع.
في الأثناء، فإن قلّة الثقة المتدحرجة بين الزعماء الأفارقة لا تسمح بفرض الحلول على الأطراف المتصارعة، ومن بينهم أيضاً رئيس الكونغو الديمقراطية، الذي يستخدم سلاح التجييش "السيادي"، فيما يعدّ موقفه الأضعف في المعادلة، حتى الآن، نظراً إلى غلقه الباب على التفاوض، والفساد المستشري في البلاد، وتصميم خصومه المقاتلين. أما كاغامي، فيُنظر إليه على صعيد واسع دولياً، على أنه تمكن من تحقيق إنجازات واعدة في رواندا، اقتصادية من دون عمق ديمقراطي. تقدم اقتصادي تلا المذبحة الجماعية بين الهوتو والتوتسي (1994)، والتي قتل فيها حوالي 800 ألف من التوتسي (تقديرات غير نهائية، ويشكل القتلى 75% من التوتسي في رواندا آنذاك)، وعدد أقل من الهوتو المعتدلين، على يد إثنية الهوتو، التي برزت لديها النزعة التفوقية بعد الاستقلال (عن بلجيكا – عام 1962)، بعد عقود من التهميش، وتفضيل الاستعمار للتوتسي. وكاغامي من التوتسي، وكذلك أغلبية مقاتلي حركة "23 مارس" التي تدعمها رواندا في شرق الكونغو الديمقراطية، الغني بالمعادن، من ذهب وكوبالت وقصدير وكولتان، والمسروق منذ عقود في طرق نهب تصل إلى أوغندا والإمارات، فضلاً عن حصص دول الاستعمار، فيما بات يتردد اليوم، بشدّة، اسم الصين، من ضمن دائرة المصالح الاقتصادية القوية في المنطقة، والتي لها علاقات جيّدة مع رواندا، لكنها لا ترغب في رؤية تطور أكثر دراماتيكية للنزاع.
وإذا ما قيس التوجه الفرنسي بنبض إعلامه، فإن غضباً فرنسياً يهبط على فيليكس تشيسكيدي، حيث يبدو أن باريس تحمّله، بشكل من الأشكال، مسؤولية ما وصلت إليه الأمور اليوم، لرفضه منذ سنوات التفاوض مع حركة "23 مارس"، والمجموعات المسلحة الأخرى التي تدعمها، وتعمل معها (في شرق الكونغو تنشط حوالي 100 مليشيا وحركة مسّلحة). ويرفض رئيس الكونغو الديمقراطية التفاوض مع متمردي "23 مارس"، واصفاً إياهم بالإرهابيين، والمأجورين لدى رواندا.
ويذكر في هذا الصدد أن الولايات المتحدة فرضت، العام الماضي، عقوبات على "تحالف نهر الكونغو" المسلّح في شرق الكونغو، والذي قالت إنه يسعى لإطاحة الحكم في الكونغو الديمقراطية. هذا التحالف معروف باسمه الفرنسي Alliance Fleuve Congo، واتهمته الخزانة الأميركية بتغذية عدم الاستقرار والصراع العنفي والنزوح الجماعي في البلاد. وتعدّ حركة "23 مارس" العضو الأساسي في هذا التحالف ، والتي بحسب الخزانة الأميركية "لديها تاريخ طويل من محاولة زعزعة الاستقرار في شمال كيفو وارتكاب انتهاكات بمجال حقوق الإنسان". وفرضت واشنطن عقوبات على زعيم الحركة برتران بيسيموا، كما أعادت وضع كورنيل يوبيلو نانغا، الذي أطلق التحالف إلى جانب بيسيموا، على لائحة العقوبات. ونانغا، هو زعيم التحالف، والرئيس السابق للجنة الانتخابات الوطنية في الكونغو الديمقراطية، وكان حليفا سابقا للرئيس تشيسكيدي، وفُرضت عليه عقوبات أميركية في 2019، لمحاولته زعزعة "النظام الديمقراطي" في البلاد.
تقدم إلى جنوب كوفو
وكانت حركة "23 مارس" قد تراجعت في عام 2012، حين سيطرت على غوما، تحت وطأة الضغوط الدولية التي انهالت على رواندا، في وقت وصلت البلاد إلى مرحلة نسبية من التهدئة، قبل أن تعاود "23 مارس" نشاطها المسلّح بقوة في عام 2021. حينها، تدخلت دول عدة، غربية وإقليمية، وكذلك الأمم المتحدة، في محاولة للتوصل إلى حلّ بالتفاوض، دون جدوى، إذ تتمسك رواندا ودول أخرى تصطف إلى جانبها في منطقة الجوار، بضرورة أن تتحاور كينشاسا مع المتمردين، وربما على أحد أشكال تقاسم السلطة. لكن بحسب أحد الدبلوماسيين من بروكسل، كما تحدث لصحيفة ليبراسيون الفرنسية، أول من أمس، فإن الأمر مختلف اليوم. وبرأيه، فإن "نظام تشيسكيدي يتداعى اليوم. لقد أحبط المجتمع المحلي والدولي، لأنه لم يتمكن معالجة أي مشكلة: الفقر، وانعدام التنمية، والفساد". وأضاف: "الحرب في الشرق تسمح له بالتعمية على ذلك، لكن سقوط غوما يؤكد ضعفه". وشرح الدبلوماسي البلجيكي أنه منذ "عام ونصف العام، تعمل حركة 23 مارس على تعزيز نفسها عبر الاتحاد مع تحالف آخر سياسي - عسكري، هو تحالف نهر الكونغو، ومؤسسه كورنيل نانغا، الذي من جهته كان واضحاً بأنه لن يقف عند حدود غوما، ومصمم على التوجه إلى كينشاسا وإسقاط تشيسكيدي".
ويعتبر الغرب ربما أن سقوط النظام في الكونغو الديمقراطية هو مسألة وقت، في حين ربما لا تمانع رواندا في الضغط للتفاوض من موقع قوة، إذ يبدو أن قواتها قد دخلت شرق الكونغو الديمقراطية، بالآلاف، حيث ترى الأمم المتحدة أن الجيش الرواندي أصبح الحاكم شرقي الكونغو الديمقراطية بحكم الأمر الواقع. وسجّل المتمردون، أمس، تقدماً جديداً، جنوباً، بعد غوما في أقصى الشرق على حدود رواندا، ونقلت وكالة فرانس برس عن مصادر محلية، تأكيدها أن المعارك العنيفة تركّزت على بعد 30 كيلومتراً من مدينة كافومو الاستراتيجية، التي تحوي مطاراً عسكرياً، وهي النقطة الدفاعية التي وصلتها القوات الكونغولية بعد انسحابها من غوما. وتبعد كافومو حوالي 40 كيلومتراً، شمالاً، عن عاصمة جنوب كيفو، يوكافو. وحذّرت الأمم المتحدة، أخيراً، من أن هناك "تقارير ذات مصداقية تتحدث عن أن حركة 23 مارس تتقدم سريعاً باتجاه بوكافو"، وهي ثاني أكبر مدينة في شرق الكونغو بعد غوما، وتضم حوالي مليوني نسمة. لكن مصدراً كونغولياً قال لوكالة رويترز، أمس، إن القوات الكونغولية المدعومة من نظيرتها البوروندية، تمكنت من إبطاء تقدم المتمردين.
تملك الكونغو الديمقراطية أكبر احتياطات في العالم مما يسمى المعادن "الاستراتيجية"، وعلى رأسها الكوبالت والذهب
وعلى الرغم من أهمية التحالف "السياسي"، الداعم والمقاتل إلى جانب "23 مارس"، والمتمثل بتيار نانغا، فإن جماعات مسلحة أخرى يبدو أنها مستفيدة من الأزمة وتعمل على تسعيرها. وبحسب "مركز العلاقات الخارجية" البحثي الأميركي، في تقرير له حول تعقب الأزمات جرى تحديثه في 25 يناير/كانون الثاني الماضي، فإن "23 مارس" متحالفة أيضاً مع "القوى الديمقراطية المتحالفة" (ADF)، والتي توالي تنظيم داعش. وتضغط هذه المجموعات جميعها للتوجه إلى كينشاسا، علماً أن اتفاقاً لوقف النار كان قد تمّ إبرامه بين "23 مارس" والحكومة في العاصمة في يوليو/تموز 2024، على اعتبار الإقرار باحتفاظ "23 مارس" بالأراضي التي سيطرت عليها (دون غوما) منذ تقدمها المستجد في 2021.
ثروات وأطماع
لكن محفزات على علاقة بحجم الأطماع بثروات المنطقة، قد تكون المشغّل الأساسي للأزمة المتصاعدة حالياً، وهي أزمة لها جذور منذ عقود، وغذّت على مدارها تجارة تهريب الذهب والمعادن الثمينة الأخرى، التي تختزن في شرق الكونغو الديمقراطية. وبينما تردّد رواندا، في كل مرة تندلع فيها الأزمة، بما فيها حربا الكونغو الديمقراطية الأهليتان (1996 ـ 1997) و(1998 ـ 2003)، أن المشكلة تكمن في حركة متمردي الهوتو الذين هربوا إلى الكونغو الديمقراطية، والتي تعتبرها تهديداً لأمنها القومي (مليشيات الهوتو العرقية مثل "القوات الديمقراطية لتحرير رواندا" التي أسّسها الهوتو الذين فروا من رواندا بعد مشاركتهم في الإبادة)، فإن القصة أبعد من ذلك، رغم أن دعم كينشاسا لمتمردي الهوتو ليس بجديد.
وليست خافية الأجندة الربحية لكل من رواندا والدول المتحالفة معها، ومن بينها أوغندا، والمتمردين المسلّحين المدعومين منها، على مختلف أطيافهم، والذين باتوا يسيطرون حالياً على مجمل شبكة طرقات التجارة والتهريب التي تدرّ ملايين الدولارات شهرياً في شرق الكونغو الديمقراطية الغنية بالمعادن والثروات الثمينة. هذه التجارة غير الشرعية كانت المغذي لجولات عنف سابقة أجّجتها "23 مارس" بدفع من رواندا.
وتملك الكونغو الديمقراطية أكبر احتياطات في العالم مما يسمى المعادن "الاستراتيجية". وهي تملك فعلياً أكبر احتياطي في العالم من معدن الكوبالت، أو ما يسمى "الذهب الأزرق"، وتليها أستراليا. وللكوبالت خصائص مشابهة للحديد والنيكل، ويحظى بأهمية كبيرة لاستخدامه في بطاريات الهواتف الذكية وغيرها من الأجهزة الإلكترونية. كما يتمتع شرق الكونغو بحوالي 80% من احتياطيات معدن الكولتان في العالم، وهو معدن أسود أو بني محمر مركب من معدنين: الكولومبيت والتانتاليت، ويستخرج منه النيوبيوم، ويتم استخدامه في المنتجات الإلكترونية كالمكثفات والرقائق في الهواتف المحمولة وأجهزة الكمبيوتر وألعاب الفيديو والأجهزة المنزلية، كما يدخل بسبب مقاومته الحرارة والتآكل في صناعة المحركات النفاثة في الصواريخ والطائرات، وفي سبائك أدوات القطع أو الخراطة. لكن التصعيد لا يُعزى فقط إلى الكولتان والكوبالت، فقط، بل أيضاً إلى الذهب والألماس والقصدير وغيرها من المعادن الثمينة الأخرى. وتبلغ عمليات التهريب ذروتها في هذه المنطقة المتوترة، حيث تتهم الإمارات بالسيطرة على كميات تقدر بملايين الدولارات من الذهب الأفريقي، بطريقة غير شرعية، وهو ما وثّقته تقارير دولية وأممية، من بينها تقرير لخبراء أمميين صدر عام 2020، تمّ فيه توثيق تفاصيل دقيقة عن عمليات التهريب غير الشرعية من الكونغو الديمقراطية، إلى دول عدة منها الإمارات وبوروندي ورواندا وتنزانيا.
لكن رواندا تبقى مفصلية في هذا الصراع، حيث يعتبر خبراء أن مصالحها الاقتصادية، الممزوجة بالرغبة الدائمة في إخضاع الكونغو الديمقراطية (مع خلاف حجم البلدين، إذ تعتبر الكونغو الديمقراطية ثاني أكبر بلد في أفريقيا بعد الجزائر)، هي المحرك الأساسي لهذه الحروب الممتدة منذ عقود، حيث أصبحت شمّاعة "الإبادة" غطاء لطموح استراتيجي هو خليط من السياسة والاقتصاد والعسكرة.
