منذ اندلاع المعارك بين الجيش السوداني وقوات الدعم السريع في 15 إبريل/نيسان 2023، انتشرت على منصات التواصل الاجتماعي وعبر تطبيقات الدردشة المعلومات المضللة التي ساهمت في تأجيج التوتر والعنف بين الطرفين. هكذا، أصبحت شبكة الإنترنت ساحة معركة موازية، تستخدم فيها تحديداً تقنية "التزييف العميق" (deepfake) لنشر الشائعات وحشد الأشخاص.
في أكتوبر/تشرين الأول 2024، نشر موقع أفريكان أرغومنتس الإخباري تقريراً أشار فيه إلى أن تقنيات الذكاء الاصطناعي استخدمت لتوليد مقاطع فيديو مفبركة منذ الأيام الأولى للحرب السودانية. على سبيل المثال، نشرت صحيفة ديلي ميل البريطانية، في أغسطس/آب 2023، مقطع فيديو يظهر فيه السفير الأميركي في السودان وهو يقول إنّ الولايات المتحدة لديها خطة للحد من تأثير الإسلام في البلاد، وهو ما اتضح زيفه في ما بعد. أما في أكتوبر 2023، فكشفت تحقيقات أجرتها هيئة الإذاعة البريطانية (بي بي سي) عن حملة استخدمت الذكاء الاصطناعي لانتحال صوت الرئيس السوداني السابق عمر البشير، وحصدت هذه المقاطع مئات الآلاف من المشاهدات على منصة تيك توك. وفي السياق نفسه، نشر حساب على منصة إكس (تويتر سابقاً) لمذيع تلفزيوني وإذاعي، في مارس/آذار 2024، تسجيلاً صوتياً نُسب إلى قائد القوات المسلحة السودانية عبد الفتاح البرهان، تضمّن أوامر بقتل المدنيين ونشر القناصة، واحتلال المباني. وشوهد هذا التسجيل المُزيف، الذي وُلّد باستخدام الذكاء الاصطناعي 230 ألف مرة، وتداوله مئات المستخدمين، من بينهم شخصيات سياسية سودانية معروفة، وفقاً لموقع مسبار المتخصص في فحص الأخبار وتقصي الحقائق وكشف الكذب في الفضاء العمومي. ونقل "مسبار" عن الباحث السوداني في مجال الذكاء الاصطناعي في جامعة دبلن سيتي، محمد صبري، قوله إنّ "معظم مقاطع التزييف العميق المتداولة في السودان يسهل كشف زيفها بسبب جودتها الرديئة، ويُعزى ذلك إلى نقص البيانات المدربة على اللهجات السودانية". لكنه حذّر، الأحد الماضي، من أنه "مع استثمار الجهات الخبيثة المزيد من الوقت والمال في التكنولوجيا المتقدمة، فقد يصبح إنتاج هذا المحتوى أكثر إقناعاً".
وفي السياق نفسه، حذرت منظمة سمكس غير الربحية للحقوق الرقمية، ومقرها العاصمة اللبنانية بيروت، من انتشار المعلومات المضللة في بداية الحرب السودانية، وأكدت أن المعلومات المضللة غالباً ما تدار من جهات حكومية ومنافسين سياسيين يسعون إلى نشر دعايتهم، للتأثير على الرأي العام. ومن بين أخطر عواقبها أنها تعرض الفئات الأكثر ضعفاً للخطر. ففي أوقات النزاعات والنزوح، عندما يكون الوصول إلى الضروريات الأساسية مثل الغذاء والمياه محدوداً، يعتمد كثيرون على المعلومات الصادرة عن المصادر الرسمية عبر مواقع التواصل الاجتماعي باعتبارها طوق نجاة. وأوضحت الناشطة الحقوقية السودانية الأميركية، عزاز الشامي، في مقابلة مع "سمكس" في مايو/أيار 2023 أن "الفارّين من النزاع يبحثون عن التوجيهات والموارد عبر مواقع التواصل الاجتماعي، لكن الحسابات المزيفة تستغل حالة الهلع العام لخداعهم وتضليلهم".
وأفاد تقرير "سمكس" حينها بأن حساب قوات الدعم السريع السابق على "إكس" يحمل علامة التوثيق الزرقاء، ويتابعه أكثر من مائة ألف شخص، ويعد أداة رئيسية في نشر المعلومات المضللة. واتهم تقرير "سمكس" منصة إكس بالمساهمة في تعزيز وجود قوات الدعم السريع عبر إتاحة منصة رسمية لها لنشر أجندتها الدعائية. فعلى سبيل المثال، خلال هجوم على العاصمة السودانية في 12 مايو 2023، نشرت قوات الدعم السريع منشورات مضللة زعمت فيها سيطرتها الكاملة على الخرطوم، بينما أكدت مصادر إعلامية موثوق بها حينها استمرار القتال في المدينة، ما يتناقض مع مزاعم قوات الدعم السريع. كما شنت قوات الدعم السريع حملة تشويه ضد الجيش السوداني على منصة إكس باللغتين العربية والإنكليزية.
ونهاية العام الماضي، نشر موقع أفريكان ديجيتال ديموكراسي أوبسرفاتوري تقريراً مفصلاً عن بروباغندا الحرب في السودان وتأثيرها على الواقع السوداني، ورصد الاستخدام المكثف والمتكرر لبعض العبارات والجمل في حملات الدعاية الحربية، إذ تترسخ في أذهان المتلقين وكأنها حقائق مطلقة؛ قوات الدعم السريع استخدمت وسم "#معركة_الديمقراطية" في معظم منشوراتها المتعلقة بالحرب، إن لم يكن جميعها. في المقابل، استخدم الجيش السوداني وسم "#معركة_الكرامة" في جميع منشوراته على حسابه الرسمي في "فيسبوك". وفي إطار الدعاية المضادة، استخدم الجيش وسم "#مليشيا_الدعم_السريع_الإرهابية" في العديد من منشوراته. ويستخدم مؤيدو الحرب في السودان وسم "#بل_بس"، وهو مصطلح عامي شائع في السودان يُشجع على استمرار القتال حتى القضاء على العدو.
ونبه التقرير نفسه إلى أن التحريض على الفتنة والنزاعات القبلية من أهم أساليب الدعاية الحربية التي تستخدمها الأطراف المتورطة في الحرب، لخلق حالة من الانقسام والتفكك داخل المجتمع. وهذا ما حدث في السياق السوداني، إذ أغرقت الدعاية الحربية منصات التواصل الاجتماعي بتعبيرات عنصرية وخطاب كراهية، صوّرت الحرب في السودان على أنها ذات "دوافع عرقية وإقليمية". على سبيل المثال، منذ بداية الحرب، تعمدت بعض الجهات وصف الصراع في السودان بأنه "نزاع إقليمي"، وتصويره على أنه "حرب أهلية بين مكونات قبلية ومجتمعية داخل السودان". ورغم أنّ بعض الأطراف قد ترى أنّ هذه الحرب تحمل أبعادًا "إقليمية أو عرقية"، إلا أنّ ذلك لا يمثل جوهر الأزمة، ومع ذلك، جعلت حملات الدعاية الحربية من هذا التصور حجر الأساس في الحرب السودانية. واستشهد التقرير بفريق بيم السوداني للتحقق الذي أفاد بأن حملات الدعاية الحربية سعت إلى صياغة سردية تربط بعض القبائل بدعم قوات الدعم السريع، وأخرى بدعم الجيش السوداني، ما أدى إلى انتشار واسع لخطاب الكراهية ضد بعض القبائل غرب السودان، إذ وُصفت بأنها "جزء من قوات الدعم السريع". كما أشارت بعض الحملات الدعائية إلى أنّ أحد أسباب الحرب هو الخلل في التنمية بين المناطق الريفية والحضرية في البلاد، ما أضفى بعداً إقليمياً على الحرب. كما استخدمت حملات الدعاية الحربية العديد من التعبيرات العنصرية لوصف بعض قبائل غرب السودان، خصوصاً المسيرية والرزيقات، وزاد استخدام أسماء هذه القبائل في خطاب الكراهية والمنشورات التي تتناول الحرب بشكل ملحوظ.
وعملت جهات إعلامية بارزة على إصدار تقارير دورية تنتقي فيها أكثر الأخبار تأثيراً وتضليلاً في السودان لتفندها وتدحضها بالأدلة، وأبرز تلك الجهات منصة جهينة وراديو دبنقا وبيم ريبوت، كما شاركت حسابات شخصية على منصات التواصل الاجتماعي في تلك الحرب على الأكاذيب.
يُذكر أن الجيش السوداني سيطر، صباح أمس الجمعة، على القصر الرئاسي المعروف بـ"القصر الجمهوري" وسط الخرطوم بعد معارك عنيفة مع قوات الدعم السريع، وبذلك يكون قد استعاد "رمز السلطة" في السودان، وأبرز موقع خسره في الأيام الأولى من الحرب.
