دايفيد إدموندز.. إعادة التفكير في "معضلة العربة"

منذ ١ ساعة ١١

تُعتبر "معضلة العربة" نموذجاً للفكر الفلسفي الأخلاقي في بعديه الواقعيّ والروحي (أي المهتم بالسبُل العملية التي تجعل المثالَ الأخلاقي يتجسَّد في حياة الناس وفي الوقت عينه بصوغ المُثل التي ينبغي أن يقتدي بها الناسُ في أفعالهم) منذ حوالي ستين عاماً. وهي تجربة فكرية تكشف عن انقسامات غير متوقعة، وقد حققت شهرة عالمية، على الأقل في أقسام الفلسفة، لدرجة أن بعض الأساتذة اقترح تدريس مقرّرات جامعية بعنوان "علم العربة".

ولهذا السبب، لا يزال كتاب البريطاني دايفيد إدموندز "هل ستقتل الرجل السمين؟ معضلة العربة وما يخبرنا به جوابك عن الصواب والخطأ" الصادر عن "منشورات جامعة برينستون" موضع اهتمام الفلسفة الأخلاقية وتنظيم مفهوم السلوك الصائب والخاطئ. لهذا اهتمت دار "إليوت" الفرنسية بنقله إلى لغة موليير في ترجمة صدرت مؤخراً حملت تواقيع: ستيفان دونان، وأنطوان دانغ فان، وماتيو مولسي، وسبيستيان رهو. ودايفيد إدموندز خريج جامعة أوكسفورد، والحاصل على زمالة جامعة "شيكاغو" و"ميشيغن" في الولايات المتحدة الأميركية. وصدرت له مجموعة من الكتب الفلسفية التي تهدف إلى طرح معضلة أخلاقية، لعل أكثرها شهرة "معضلة العربة".  

ما هي المعضلة؟  

تدور معضلة العربة التي تعرف أيضاً بـ "ديلمة الترامواي" حول عربة قطار تعطّلت على ما يبدو مكابحها، فخرجت مسرعةً عن سيطرة سائقها، وعلى مسارها يقف خمسة عمال صيانة أبرياء سيموتون حتماً إن لم يقم سائق العربة أو العامل الواقف على الرصيف بتحويلها عن مسارها وتوجيهها إلى مسار آخر، حيث يقف شخص واحد سمين، بريء هو أيضاً، ولكنه بالتأكيد سيلقى حتفه إن وجّه السائق أو العامل العربة باتجاهه.

تحويل مسار العربة يعني اختيار قتل شخص ما لإنقاذ خمسة

فهل سيقوم السائق أو العامل بتحويل مسار العربة؟ وهل من الممكن أخلاقياً التضحية بحياة واحد لإنقاذ خمسة؟ أو هل يستطيع شخص أن يقوم بتصرف يعود بالنفع على مجموعة من الأشخاص (مجموعة أ)، ولكن بفعله هذا يُلحق الضرر بشخص آخر (شخص ب)؟ وهل يُعتبر السائق الذي لم يكن في نيّته أذيّة هذا الشخص السمين، قاتلاً؟ ماذا سيختار السائق أو العامل؟ ومن سيُضحى به؟ هل سيضغط أحدهما على الرافعة لإنقاذ الأشخاص الخمسة الموجودين على المسار الرئيسي؟ أم أنهما سيمتنعان عن التدخل حتى لا يُسبّبا موتَ العامل السمين الموجود على المسار الجانبي؟  

يعتبر غالبية الناس أنّه ينبغي التضحية بالعامل الوحيد لإنقاذ الخمسة، علماً أنّه في الحالة الأولى، لا يقصد السائق أن يُسبّب الأذى لأيّ شخص، فالأذيّة التي ستحدث هي مجرّد عواقب غير مقصودة. بينما تحويل مسار العربة يعني أن السائق أو العامل اختار قتل شخص ما لإنقاذ خمسة، وهذا خطأ، ذلك أنّه، في الحالة الأولى، ليس لديه مثل هذه النيّة أو التصميم.  


أول الملامح

تعود معضلة العربة إلى الفيلسوفة فيليبا فوت (1920-2010) حفيدة الرئيس الأميركي الأسبق غروفر كليفلاند، خريجة كلية سومرفيل في "جامعة أوكسفورد"، والتي درّست الفلسفة في العديد من الجامعات المرموقة في الولايات المتحدة حتى وفاتها عام 2020. بعد أن نشرت مجموعة من الكتب والمقالات في مجال أخلاقيات الفضيلة المعاصرة، المستوحاة من أرسطو ككتابها "الفضائل والرذائل" الذي ميّزت فيه بين "القيام" بشيء ما بشكل نشط وبين مجرد "السماح بحدوثه"، تخيّلت فوت هذا السيناريو غير المحتمل في مقالة معمّقة تناولت فيها فكر توما الأكويني والإجهاض نُشرت في مجلة "أوكسفورد ريفيو" سنة 1967. لكن فوت لم تتخيل أنها بهذه المعضلة وضعت واحدة من أشهر المسائل الفكرية في تاريخ الفلسفة، والتي فتحت الباب واسعاً أمام نقاشات لم تنته بعد حول شرعية التضحية بحياة شخص لإنقاذ حياة أشخاص آخرين.

استخدمت لتجسيد المعضلة الأخلاقية التي أحدثتها أزمة كوفيد-19

بأسلوبه الحيوي، عاد المفكر البريطاني إلى هذه المعضلة الفكرية، مستعرضاً نشأتها ونجاحها وتنوعاتها وتطوراتها الغريبة أحياناً، واصفاً بالتفصيل الأوساط الفكرية التي ازدهرت فيها، طارحاً سؤالين مهمين: هل من المقبول ترك شخص يموت لإنقاذ آخرين؟ وما هي المبرّرات الأخلاقية التي تسّوغ التضحية به؟  


"حمار بوريدان" 

تذّكرنا هذه المعضلة بالمفارقة التي طرحها في القرن الرابع عشر الفيلسوف جان بوريدان والمعروفة بـ "حمار بوريدان" الجائع والعطش، والواقف في منتصف المسافة بين كومة قش ودلو ماء. تقول لنا هذه المفارقة إن الحمار بقي متردداً بين الأكل والشرب، ولم يتخذ قراراً باختيار أحدهما، فكانت النتيجة موته المحتّم من جرّاء شدّة الجوع والعطش. لكنّ سلوك الإنسان مختلف. فما الذي يميّز الحمار من الإنسان الذي سيختار في النهاية ولو جزافاً ومن دون تردّد أحد هذين الخيارين؟ تلك هي المسألة التي تثيرها معضلة العربة التي وُلِدت من تأملات حول الكوارث الكبرى التي أعادت تشكيل الفلسفة الأخلاقية في القرن العشرين، والتي أطلقت الحوار مع أبرز نصوص الفلسفة الإيتيقية. وقد أصبح هذا السيناريو البسيط في ظاهره أداة لا غنى عنها لفهم القضايا الأخلاقية الكبرى التي تطرح بثقلها على الإنسان المعاصر. 


ترامولوجيا رجل واحد

يسرد كتاب دايفيد إدموندز لأول مرة تاريخ هذا السيناريو، ولعله مدخل جيد لهذه التجربة الفكرية الأشهر في الفلسفة المعاصرة التي ما زالت تجد لها صدىً في الوقت الحاضر، سواء في القرارات الحيوية التي يتّخذها الأطباء في المستشفيات أو في الاستراتيجيات التي تتبعها الجيوش. هذه "الترامولوجيا"، إن صحّ التعبير، والذي أطلقه الفيلسوف البريطاني كوامي أنطوني آبيا (مواليد 1954)، تطرح أسئلة أخلاقية ضخمة، يعالجها المؤلف بأسلوبه المليء بروح الدعابة. ذلك أنه منذ ستين عاماً، كثرت المنشورات التي تناولت هذه "الديلمة"، وجرت استطلاعات في جميع أنحاء العالم لمعرفة آراء الناس وخياراتهم المحتملة. فما هو الموقف الواجب اتخاذه إن كان الشخص الوحيد الواقف على السكة صديقاً أو شاباً؟ وماذا لو كانت المجموعة التي سيتم إنقاذها مؤلفة من إرهابيين خطرين أو مرضى في نهاية حياتهم؟

استُخدمت هذه التجربة الفكرية في الأخلاقيات وعلوم الإدراك والأخلاقيات العصبية، وحلّلها بعمق مفكرون من أمثال بيتر أنغر وجوديث جارفيس طومسون وفرانسيس كام وغيرهم. كما أن الفيلسوف القانوني الألماني كارل إنجش درس مفارقة مشابهة في أطروحته سنة 1930، وكذلك فعل القانوني الألماني هانز فيلتسل في أحد كتبه الصادرة في خمسينيات القرن العشرين.

تؤكد الرؤية النفعية أنه ينبغي اختيار المسار الذي يشغله رجل واحد. ومن هذا المنظور، ليس هذا الاختيار فقط اختياراً مسموحاً، بل إنه أفضل اختيار أخلاقي، علماً أن الاختيار الآخر هو عدم القيام بأي شيء. ثمة وجهة نظر أخرى تقول إن الوضع نفسه منحاز أخلاقياً، وإن أي إجراء يتم اتخاذه يجعل الفاعل مسؤولاً جزئياً عن العواقب. فيكون الخيار الأفضل هو محاولة تغيير المجتمع أو العالم، للتقليل قدر الإمكان من حدوث مثل هذه المواقف. فمثلًا، في حالة القطار، قد يكون الأفضل تحسين مكابحه وصيانته دوماً أو تقليل سرعته لتسهيل التوقف الطارئ. 

أما الفلسفة الموضوعية التي طورتها الفيلسوفة الأميركية آين راند (1905- 1982) فتقدّم تفسيراً أخلاقياً يستند إلى مبدأ عدم الاعتداء، يقضي بعدم جواز المساس بسلامة أي فرد بريء. وفقاً لهذه الفلسفة، لا يتعلّق الأمر باختيار يقع بين خيارين متساويين، بل يتعلق الأمر بالخيار بين التصرف أو عدم التصرف. كما أظهر بحث عالمي بدأ في 2016 تحت مسمى "الآلة الأخلاقية"، تفاوتاً كبيراً في القرارات الأخلاقية تبعاً للثقافة المحلية. وقد استخدم الاقتصادي بول فرايترز مفارقة العربة مؤخراً لتجسيد المعضلة الأخلاقية التي أحدثتها أزمة كوفيد-19، مفكراً في قياس الأضرار التي قد تُسببها العدوى بكوفيد-19، وأيضاً البطالة والاكتئاب وسوء التغذية والأضرار المتعلقة بالصحة العقلية الناجمة عن الحجر.

هذه المعضلات الأخلاقية، أصبحت اليوم موضع اهتمام كبير لدى بعض علماء النفس والأعصاب والأحياء. كل منهم أجرى تجارب وتأملات لمحاولة العثور على حلٍّ لها. فهل القاعدة هي أن نكون نفعيين أم ملتزمين بالأخلاق المطلقة؟

هذه الدراسات حول الأسس الفلسفية للأخلاق مثيرة للاهتمام، ويسرد الكاتب البريطاني تاريخها رابطاً إياها بمواقف ملموسة، مقدماً تلخيصاً واضحاً لجميع النقاشات التي أثارتها، بحيث يفهم القارئ بشكل أفضل من أين جاءت هذه المعضلات، وما تعنيه، وما الذي تتضمنه.

في نهاية الكتاب، يخبرنا إدموندز ما إذا كان يجب التضحية بالرجل السمين أم لا. وبغضّ النظر عن جوابه، فإن تحليله الكامل لهذه المعضلة هو الذي يستحق الاهتمام. 

 
* أكاديمية وكاتبة من لبنان

قراءة المقال بالكامل