سورية بين الأمس واليوم

منذ ٨ ساعات ٩

خرجتُ أتنسّم سوريّة جديدة، والجديد لا يعني الأفضل بالضرورة. مشيتُ في الشارع الطويل، ورغم التلوّث السميك، شعرتُ بالهواء يتفكّك، تتباعد ذرّاته وينداح بخفّة وحريّة، رائحته غريبة ومنعشة. أتنفّس بعمق، فيدغدغ الهواء مكمن الفرح بالخلاص من الاستبداد، فرح متفرّد أحفظه كشيءٍ ثمين بعيداً عن الآتي وكوارث كنّا نتوقّعها؛ نحن الذين تجرّأنا على ارتكاب الحلم في فصول الظلام المديدة رغم أنف (الأبد) الأسديّ. وفي خاطري وخاطر سواي، امرؤ القيس في قوله: "لا صحو اليوم ولا سكر غداً/ اليوم خمرٌ وغداً أمر".

وحده يمكثُ حلمنا يضلّل الديكتاتور، يرفض الاستبداد، فالاستسلام للظلم وقبوله، وصولاً إلى التعوّد، ينفي فكرة المقاومة

 

كنّا نتكهّن الآتي بعد زوال الأسد، فالاستبداد يجعل الأرض يباباً، ويحوّل شعبها إلى نكرات، وعلى حدّ تعبير ليسبون ويل: "السلطة هي القدرة على تحويل الكائن الحيّ إلى جثمان، ومن ثمّ إلى لا شيء". فخلال نصف قرن ونيّف، عمل الأب والابن المستبدّان في البلاد نهباً وفساداً، قتلاً وتشريداً، قمعاً واعتقالاً، تجويعاً وحرماناً، ومقابر جماعيّة لجثث ضحاياهما، أو رميها في الخلاء بمحاذاة النكرات السائرين في التّيه. وبالطبع، ستَهرع إلى هذه الأرض اليباب قطط وكلاب، حشرات وزواحف سامّة، ووحوش ضارية مختلفة. بلى، كنّا ندرك ذلك، نحن النكرات/ الجثامين الحالمين. فلطالما نُهشت سوريّة/ الكعكة الشهيّة، منذ أوائل سبعينيات القرن الماضي، مروراً بسنوات الحرب الأربع عشرة، وحتّى ساعة هروب الأسد سيئ الذكر! نُهّاب ولصوص، واحتلالات غصّ بهم قلبُ أرضنا وأرواحُنا المبلبلة. 

يوم سقوط النظام العفن وهروب قائده الجبان، ورغم توقعنا الوجل بقدوم من قد لا نتّفق معهم، وقد قدموا، رحّبنا بهم في المناطق التي سيطروا عليها، فهم سلطة الأمر الواقع؛ الدولة. رحّبنا بهم لأنهم سوريون صرف، كما كنّا نخال. ورغم معرفتنا أنّ قاموسهم اللغويّ خالٍ من مفردات آمالنا، مثل، الديمقراطيّة، والدولة المدنيّة، والعدالة. لكن لا بأس، قبِلنا بسلطتهم على دولتنا، ونحن ندرك أنّ واجبنا الوطنيّ يُلزمنا بالالتفاف حولها في هذه الظروف الخطرة التي تمرّ بها بلادنا، ضدّ محاولات تقسيمها، وتمزيق وحدة شعبنا مجدّداً.

في سوريّة الجديدة، شاهدنا سياراتٍ قادمة من إدلب وحلب، وسرافيس لنقل الركاب بين تلك المناطق وأريافها. يا لفرحتنا العارمة بلمّ شمل قسم من أجزائنا، كانت أشلاؤنا تشتاق لبعضها بعضاً. واكب ذلك عودة سوريّين كثيرين من الخارج، رجعوا إلى وطنهم، فاستُعيدت الضحكات والمعانقات السليبة، وانتعشت.
يقول إدواردو غاليانو في واحدة من شذرات كتابه "المعانقات": "نظام عزلة، ابحث عن رقم واحد، جارك ليس أخاً لك أو حبيباً. جارك منافس، عدوّ، عائقٌ يجب إزاحته أو شيء يجب استخدامه. لا يغذّي النظام الجسد أو القلب: حكم على كثيرين بالتضوّر جوعاً بسبب غياب الخبز، وعلى أكثر منهم بغياب المعانقات".

كنّا نتكهّن الآتي بعد زوال الأسد، فالاستبداد يجعل الأرض يباباً، ويحوّل شعبها إلى نكرات

 

وتهطل الأسئلة المشروعة: هل حقّاً ستُنسينا سلطة الأمر الواقع أمسنا السوريّ المخنوق بالدم والعار؟ هل ستمحو وتنسينا لغة الإجرام الأسديّ مدمّر البلاد، القمعيّة، الإقصائيّة، لغة التخويف والتخوين والاتهامات الجاهزة، لغة "نحن" و"أنتم"، والتشكيك في أبناء جلدتنا، لغة اللّاقانون واللّاعدالة، المعتقلات والسجون؟ هل نأمل في ألّا تكون السلطة الانتقاليّة محض صفحة تالية في كتاب الاستبداد تستأنف فحوى سابقاتها السوداء، فنقبع في الظلام نفسه، في الخوف ذاته، والنفاق عينه، ونتعفّن في النفق المغلق مجدّداًّ؟ متى ستتوقّف أرضنا المنهكة المنتهكة عن عملها في ستْر سيل دماء الإخوة الأعداء وقد امتزجت ببعضها بعضاً؟ ومتى ستكفّ عن غضبها العتيق وهي تتقيّأ كتل خساراتنا المشتركة الرهيبة، في وجوهنا الحاقدة القاتلة، وفي وجوهنا القتيلة المرتعبة؟ أترانا سنهتدي؟ إذْ لا حياة على أرض توحّلها الدماء، ولا أنفاس تحيا داخل جغرافية من الحرائق.

وحده يمكثُ حلمنا يضلّل الديكتاتور، يرفض الاستبداد، فالاستسلام للظلم وقبوله، وصولاً إلى التعوّد، ينفي فكرة المقاومة، ويقتل الرغبة في تحقيق إنسانيّتنا ووجودنا. والظلم يشعل بصيص الأمل، دوماً، في قلب من ينشُد العدالة لاستعادة الكرامة، وبناء وطن جامع لأطيافه كلّها، وطن القانون والمساواة شرط تحقيق الأمن والسلام، وطن موحّد حرّ كريم، لا الخبز فيه يُغيّب، ولا تُغتال المعانقات.

قراءة المقال بالكامل