"إنه شرق أوسط جديد بالفعل، لكنه على غير هوى رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو"، كان هذا أول ما تبادر إلى الذهن بعد ذيوع صورة اجتماع الرياض المنعقد بين الرئيسين، الأميركي دونالد ترامب، والسوري أحمد الشرع، على هامش القمة الخليجية الأميركية، في حضور ولي العهد السعودي الأمير محمد بن سلمان، ومشاركة الرئيس التركي رجب طيب أردوغان عن بعد، بواسطة تقنية "الفيديو كونفرانس".
لله في خلقه شؤون، وقد يجمع الشتيتين بعدما يظنان كل الظن ألا تلاقيا، خاصة لو كانا رجلين كترامب والشرع، الأول يقف من ورائه تحالف يميني متطرف، بعض أركانه لديهم هوس بما يطلقون عليه "الخطر الإسلامي"، والثاني ماضيه الجهادي الفاقع جعله مطلوباً أميركياً وفوق رأسه مكافأة قدرها 10 ملايين دولار لمن يدلي بمعلومات عنه، ما لبثت واشنطن أن تراجعت عنها بعد وصوله إلى رئاسة البلاد، ومع هذا فالمصالح تتصالح، وثمة أحداث قد تجري على "الهامش" غير أنها تنافس "المتن"، بل قد تتفوق عليه أهمية ودلالة، فبلا شك الحدث الأبرز في زيارة ترامب الخليجية، قراره رفع العقوبات عن سورية ولقاء رئيسها، بعد وساطة خليجية تركية، تبدت في حضور تلك الصورة ذات الحمولة الرمزية العالية، والدلالات السياسية والجيواستراتيجية الآتية ضمن تقارب بين طرفين يتوقان للاستحواذ على مزيد من النفوذ داخل نظام إقليمي جديد يتشكل عبر مخاض متسارع، تحفزه تداعيات الوحشية الإسرائيلية في حربها على غزة ولبنان، وما تلاها من محاولات تمدد دولة الاحتلال على حساب الجميع عرباً وأتراكاً وإيرانيين، استثماراً للدعم الأميركي الهائل وآثار الدمار الواسع فلسطينياً ولبنانياً وسورياً، وما ارتبط به من انكماش طهران وانشغالها داخلياً ببقاء النظام وخارجياً في الحفاظ على ما تبقى من مواقعها المتقدمة في العراق واليمن.
لم يعد سراً أن نتنياهو قد سعى لدى ترامب خلال زيارته الأخيرة إلى البيت الأبيض من أجل الإبقاء على العقوبات الأميركية على دمشق، إمعاناً في إضعافها أكثر، فما يجري فرصة لـ"توسيع النفوذ"، كما يقول يسرائيل كاتس وزير حربه، بالتالي يمكن استغلال الوضع السوري الهش من أجل تمدد دولة الاحتلال إقليمياً، تحقيقاً لما يصفه نتنياهو بإعادة تشكيل منطقة الشرق الأوسط بقيادة إسرائيلية، لكن على ما يبدو يصرّ ترامب، الموصوف سياسياً بـ"الرئيس غير المتوقع"، على السير في مسار منفرد، شمل وقفاً لإطلاق النار مع جماعة الحوثي، تاركاً إسرائيل لصواريخهم، بالإضافة إلى التفاوض المباشر مع حركة حماس وإيران عدوتي إسرائيل اللدودين اللتين لا حل معهما سوى القضاء التام عليهما وهو ما لا يتأتى في رأي نتنياهو بغير "القوة المفرطة والتدمير الشامل" حتى يتخلص من القيود التي تحد من توسع دولته وإدماجها في منطقة لا تزال جسداً غريباً فيها رغم كل ما قامت به.
منذ ما يُعرف بالاتفاقيات الإبراهيمية في عام 2020 ورئيس الوزراء الإسرائيلي يسرف في الحديث عن "نقطة تحول تاريخية"، و"بداية الشرق الأوسط الجديد"، تحقيقاً لإعادة تشكيل المنطقة عبر التطبيع، وهو في ذلك لا يعد الأول بين أقرانه من رؤساء وزراء الاحتلال، سبقه بها شمعون بيريز (تولى المنصب مرتين، الأولى من عام 1984 إلى 1986، والثانية لسبعة أشهر بين 1995 إلى 1996)، ولديه كتاب بالعنوان ذاته The New Middle East صدر عام 1993 بعد اتفاقية أوسلو، وخلاصته أن دمج إسرائيل في النظام الإقليمي ممكن بواسطة السلام والتعاون الاقتصادي، وهو ما ثبت فشله عربياً من خلال النموذج المصري السابق لتلك الفترة، إذ يمكن اعتبار زيارة الرئيس أنور السادات إلى القدس المحتلة عام 1977 ومن بعدها اتفاقية السلام في عام 1979 ومشاريع التطبيع الاقتصادي المتوالية، بداية ونهاية المشروع هذا، إذ لم يتغير شيء على أرض الواقع بالقاهرة، وظلت إسرائيل العدو الأول للشعب المصري، وهو ما تحافظ عليه الأنظمة المصرية المتوالية، بل وتستثمره داخلياً وخارجياً، ويعلم نتنياهو ومن سبقه جيداً أن الشعوب وإن كانت صامتة عن العلاقات مع دولة الاحتلال إلا أنها لا تقرّ حكامها على اتفاقاتهم، خاصة بعد الهمجية الواسعة وقتل آلاف الأطفال والنساء في فلسطين ولبنان وسورية.
على ضوء ما سبق، يتضح أن كثيراً من المسلمات السابقة لما قبل السابع من أكتوبر 2023، لم تعد بالقدر ذاته من الفعالية، فإسرائيل لم تعد البوابة الحصرية للباب العالي الأميركي، والنفوذ المالي والسياسي الخليجي والتركي قادران في حال اتحادهما على مواجهتها، خاصة أنها في أسوأ حالاتها اليوم، ولم تستعد قوة الردع التي كانت تحتال بها على المنطقة، وتبين خواؤها أمام خصم لا يمتلك شيئاً مقارنة بها، كما خسرت سياسياً على مستوى العالم وتراجعت حتى لدى بعض الدوائر في واشنطن، وباتت تستشعر ثقل وتكلفة أفعالها وحتى أفكارها مثل الحديث عن طرد أهالي غزة ونهب أرضهم، وكلها فرقعات لم تنجح بالرغم من سياسة القوة العارية ضد المدنيين العزل، وإنما أدخلتها في صدامات متكررة مع مصر والأردن أول وأقدم دولتين عقدتا معها اتفاقية سلام، تلاها تطبيع اقتصادي، وكل هذا يوسّع من التناقضات، بل ويخصم من علاقات دولة الاحتلال مع الأنظمة التي طبّعت معها ويعزلها أكثر عن محيطها الذي تحلم بإعادة تشكيله وقيادته وليس مجرد الاندماج فيه.
السؤال الآن هل يتكرر التعاون العربي التركي ويتعمق أكثر؟، وتحديداً في القضية الفلسطينية أهم ملفات المنطقة، فلم يعد "البعبع" الإيراني قائماً، وأميركا ترغب في الانسحاب وترك الشرق الأوسط في يد أهله، تركيزاً على ملف الصين، والتكامل بين العرب والترك، يعظم من مكاسبهما ويقلل من حجم ونفوذ دولة الاحتلال، وهو ما يمكن الاستفادة منه في الضغط عليها وعلى أميركا لانتزاع حقوق الشعب الفلسطيني، ووقف تمدد الاحتلال على ما تبقى من أرضه. إنها فرصة أخيرة قد تمثل نوراً نخرج به من النفق، وإن لم تستغلها هذه الأمة وتستيقظ من سباتها وفرقتها، فإنها ذاهبة إلى حيث رحل الشاعر حافظ إبراهيم، بعد إشكال مع زوج والدته، استدعى أن يترك له البيت، فكتب له بيتين من الشعر قائلاً: "ثقلت عليك مؤونتي إني أراها واهية... فافرح فإني ذاهب متوجه في داهية".
