عالمية التجربة الإنسانية

منذ ٧ ساعات ١١

أحيانًا، إن لم يكن غالبًا، لا يعترف الأدب بأية حواجز قومية أو محلّية، وهو خطأ ينبغي التحذير من الوقوع فيه، فباسم العالمية يعتقد البعض بأن وضع الإنسان المعاصر في عمومه يحتّم عليه أن يكون عالميًا، فمثلًا في الأدب يُحاول الكاتب أن يخوض في التجربة السريالية أو اللامعقول، أو يعتقد أن العصر يفرض عليه الاتجاه إلى التشاؤم والفردية مع أنها مرهونة بمجتمع معيّن يمرّ تطوّره بمرحلة لا يجوز للمجتمعات الأُخرى أن تُحاكيها ما دامت تمرّ في تطوّرها بمرحلة مختلفة. 

هذه الفكرة التي طرحها المفكر المصري فؤاد زكريا، ليست غريبة ولا جديدة، نعيد طرحها اليوم. لأن السبب نفسه يستدعيها لشيوعها في الخطاب الثقافي المعاصر، مع الإشارة إلى خطأ جوهري ينبغي عدم الوقوع فيه. فقد لوحظ في الأدب، من ناحية المعنى، أن التجربة الوجودية والعبثية هي التعبير الأصدق عن وضع الإنسان في عصرنا. وذهب آخرون إلى الاعتقاد بأنه يفرض التشاؤم والليبرالية المتطرفة. غير أنها كلّها ليست سوى انعكاسات لحالة خاصة بمجتمع في مرحلة محدّدة من تطوّره، ولا ينبغي تعميمها أو فرضها على مجتمعات تعيش ظروفًا تاريخية واجتماعية مختلفة.

يكمن خطأ العالمية في تجاهل خصوصية المجتمعات وسياقاتها

لهذا لا بد من إعادة النظر في فكرة العالمية، مع التأكيد على أنها في جوهرها فكرة نبيلة تسعى إلى توحيد الإنسانية على قيم مشتركة مثل العدالة والحرية والتسامح، لكن الخطأ في هذه الفكرة يكمن في تجاهل خصوصية المجتمعات وسياقاتها التاريخية. فالحقيقة أن كل مجتمع يعيش "حداثته" بشكل مختلف. فمجتمعات الدول العربية تنشغل بأسئلة الهوية والتحرّر من الاستبداد قبل أن تنشغل بأسئلة العبث والعدم واللامعنى. كذلك البلدان التي مرّت بثورات اجتماعية أو سياسية تجد نفسها أمام تحديات إعادة بناء العقد الاجتماعي، بينما المجتمعات المستقرّة تبحث عن تحديث منظوماتها الأخلاقية والفكرية.

العالمية الحقيقية لا تعني استقدام نموذج فكري أو سياسي أو أدبي، وإنما الاعتراف بتنوّع التجارب الإنسانية واحترامها. المجتمعات لا تمرّ بالأزمات ذاتها، ولا تبحث عن الحلول نفسها. العالمية تعني الحوار بين التجارب المختلفة، لا أن تصبح تجربة واحدة معيارًا يقاس عليه، ومحاولة فرضها كقالب جاهز على مجتمعات لا تنتمي إلى السياق التاريخي ذاته. إن احترام الخصوصيات الثقافية والاجتماعية، مع الانفتاح على التجارب الإنسانية الأُخرى، هو الطريق إلى عالمية حقيقية، حيث يصبح الاختلاف إثراءً وليس معطلًا.

في المجال الأدبي، نجد أن التيارات الوجودية والعبثية التي هيمنت على الأدب الغربي بعد الحربين العالميتين، نشأت من تجربة العدمية التي خلّفتها الكوارث الإنسانية. بينما إحساس الإنسان الغربي بالضياع والتفكّك، وتلاشي القيم الأخلاقية، انعكس في أعمال كامو وسارتر وغيرهما. غير أن البلدان التي لم تمرّ بهذه التجربة، أو التي كانت تعيش وقتها تحت الاستعمار أو القمع الداخلي، لا يمكنها أن تعبّر عن نفسها بهذه الطريقة. تجربة العبث ليست تجربة كونية، بل هي تجربة مرتبطة بتاريخ ثقافي خاص.

حين حاول الأدب العربي محاكاة العبثية، جاء تقليدًا سطحيًا في كثير من الأحيان، لأنه لم ينشأ من المأزق التاريخي ذاته. القارئ العربي لم يعش إحساس العدم بقدر ما عاش إحساس القهر تحت الاحتلال والطغيان. لذلك لم تكن الرواية التي قلّدت التجربة العبثية ذات تأثير كالرواية التي عبرت عن أزمة وجوده في سياق القمع السياسي. كذلك التشاؤم والفردية، كانت نابعة من انهيار الأيديولوجيات الكبرى في القرن العشرين، وصعود النزعة الاستهلاكية، ما أفرغ الحياة من المعنى لدى الإنسان الغربي. لكن مجتمعاتنا التي تعاني من أزمات اجتماعية وسياسية، لم تر في التشاؤم خيارًا. على العكس، نجدها غالبًا ما تتجه نحو البحث عن حلول جماعية، وعن معنى أعمق للحياة في مواجهة الظلم والظلام.
 

* روائي من سورية

قراءة المقال بالكامل