في وقتٍ ما زالت فيه تداعيات الأحداث في الساحل السوري تهيمن على التغطيات الخبرية وفي مواقع التواصل الاجتماعي، وتثير سجالاتٍ ذات طابع طائفي، فإن الزيارات الشيعية من العراق إلى مرقد السيّدة زينب لم تتوقّف، وظلّت محافظةً على وتيرة ثابتة منذ سقوط نظام بشّار الأسد، في الثامن من ديسمبر/ كانون الأول الماضي (2024). وبغضّ النظر عن نسبة الزائرين، كبيرةً أو محدودةً، فإن استمرار نشاط السياحة الدينية إلى المرقد يشير، بحسب مراقبين، إلى رغبة الإدارة السورية الجديدة في عدم الصِدام مع العراق.
في السياق نفسه، كانت زيارة رئيس جهاز المخابرات العراقي حميد الشطري لدمشق، والتقى فيها بالمسؤولين السوريين الجُدد بعد ثلاثة أسابيع من إطاحة الأسد (الحليف السابق للنظام العراقي)، أمراً ملفتاً، فتح أسئلة عديدة، ليتوّج هذا المسار بزيارة وزير الخارجية السوري أسعد الشيباني لبغداد، ولقائه وزير الخارجية فؤاد حسين ورئيس الوزراء العراقي محمد شياع السوداني، وهو ما يؤكّد بشكل عام رغبة البلدَين بادامة العلاقة، وعدم اتخاذ مواقف حدّيّة، على الأقل في المستوى الرسمي، وإن كان المستوى الشعبي والاجتماعي ما زال يحفل بالتراشق الطائفي، وكذلك خطاب بعض الفصائل المسلّحة العراقية، تقابلهم مجموعات سورية أو عربية متحمّسة للنظام السوري الجديد.
لا يمكن التنبؤ بمسارات الوضع السياسي والأمني والاجتماعي في سورية اليوم، وكلّ الاحتمالات مفتوحة، وما زال شكل النظام الجديد قيد التشكّل، إلا أن شكل النظام السياسي في العراق يبدو أكثر وضوحاً، بعد أكثر من 20 سنة على تغيير كاسح أحدث رجّة كبيرة مثلما يحصل في سورية اليوم. تبدو الحكومة العراقية كأنها تتصرّف بعيداً من تأثير المحور الإيراني، وتشارك في الاجتماعات العربية، إنْ بشّأن الوضع في غزّة، أو حول الشأن السوري، ومختلف القضايا العربية الأخرى. ولكن هل تملك الحكومة العراقية هذه القدرة حقّاً بالابتعاد عن الذراع الإيراني الضاغطة بقوّة على الشأن العراقي؟
كما هو معروف، تهيمن أحزاب الإسلام السياسي الشيعي على القرار السياسي في العراق، وهذه الأحزاب، وإن بدت جبهةً واحدةً في الخطوط العامّة، إلا أنها تعيش حالةً من التنافس البيني، ولديها تفصيلات مختلفة حول التعامل مع قضايا عديدة، منها طبيعة العلاقة مع إيران وأميركا، وما يمكن فعله لصدّ أي احتمالات سلبية تأتي من الحدود العراقية السورية، إن انفجرت الأوضاع هناك. ترى جميع هذه الأحزاب أن هناك عاصفة قويّة تهبّ على المنطقة، خصوصاً مع دخول ترامب البيت الأبيض، ونبرته المؤيّدة لإسرائيل، والمعارضة بشدّة للنفوذ الإيراني، وتهديده بفرض عقوبات على إيران والعراق. والعراق أضعف من أن يصمُد أمام هذه العاصفة، كما أنه، بالنسبة لإيران، يمثل أهميةً مزدوجةً؛ فهو الأرض التي يمكن فيها أن توصل إيران رسائلها إلى أميركا، أو أن تضايقها، وفي الوقت نفسه هو البلد الذي يمثّل الوسادة الليّنة التي تمتصّ ضغط العقوبات الاقتصادية الأميركية على إيران، فالتجارة الواسعة، وتصدير الغاز والكهرباء للعراق، ظلّت تمثّل متنفّساً مهمّاً للوضع الاقتصادي في إيران.
لن تربح إيران شيئاً من تداعي الأوضاع في العراق، وتعرّضه لعقوباتٍ أميركيةٍ تؤدّي إلى انهيار العملة، وهذا ما يجعلها بحاجة إلى (عراق منفتح) على المنطقة والعالم، مع الاحتفاظ بإمكانية صنع أحداث مزعجة داخل العراق للمصالح الأميركية، وإن بحدود مسيطر عليها.
يرى مراقبون أن زيارة الشيباني لبغداد لم تكن لتتمّ لولا ضوء أخضر إيراني، وربّما هي رسالة من إيران إلى أميركا وحلفائها بما يمكن لها أن تفعله في العراق، والحدث نفسه مثّل فائدة لجميع الأطراف العراقية، فهو سوّق الطرف العراقي الشيعي "المعتدل" عند جمهوره من الناخبين المحتملين، كما أنه لم يُحرج الفصائل المسلّحة، التي وإن سمحت (من تحت الطاولة) بهذه الزيارة، إلا أنها استثمرتها في مواقع التواصل باعتبارها حدثاً مُحرجاً للحكومة، وروّجت هجومها على "الحكومة المتخاذلة" عند جمهورها المتشدّد.
في كلّ الأحوال، مفيد للعراق أن يكون موقفه الرسمي معتدلاً ومتوازناً تجاه الوضع الجديد في سورية، وألا يتدخّل في شؤون جارته، وأن يُعلي من صوت الدبلوماسية على الأصوات المنادية بفتح جبهات جديدة.
