تحتاج السلطة، التي لا تقدّم أي شيء لمحكوميها، إلى مبرّر لوجودها: لماذا هي هنا؟... وقد اختصرت الدولة المصرية الإجابة في أنها هنا "لحمايتنا من الإسلاميين". وسواء كان الإسلاميون هنا، أو في السجون والمنافي، فإن الدولة "تُحضِّرهم" كالعفاريت، في يوميات المصريين، كي تجد شيئاً تقوله.
تشهد سورية أخيراً اقتتالاً بدأه فلول النظام السابق، الذين نصبوا كميناً لأفراد من الأمن العام وقتلوا عناصر منه، يصل في بعض التقديرات إلى 300 عنصر، فتردّ الدولة الجديدة باستهداف من استهدفوها، وتتّسع الدائرة لتشمل آخرين، لا ذنب لهم، ولم يتورّطوا في استهداف عناصر الأمن. تختلف التقديرات والروايات عن مدى اتساع دائرة انتقام الدولة من فلول النظام الأسدي، فلكلّ طرف رواية، وكلّ طرف له إعلام، ولكلّ طرف فيديوهات. وليس الانتصار هنا بالضرورة للرواية الأكثر صدقاً، بل للأكثر قدرة على الرواج والانتشار وإعادة التخيّل وفق سردية صاحبها. لكن، ومن دون إنكارٍ من السلطة السورية الحالية، هناك ضحايا مدنيون، قُتلوا على الهُويَّة، وما دون ذلك فمحلّ تحقيق لمعرفة من فعل هذا، وتحديد الجناة ومحاكمتهم، الأمر الذي تداولته حسابات أهالي الضحايا أنفسهم، وهم أصدق من نوافذ السلطة وخصومها على حدّ سواء.
أمّا هنا، في القاهرة، فلم تنتظر الدولة رواية أحد، لا الإدارة السورية ولا نتائج التحقيقات، ولا حتى أهالي الضحايا، فمصلحتها الدائمة والوحيدة، في مشهدٍ كهذا، هي الاستثمار في دماء الشهداء بوصفها نتيجةً مباشرةً لحكم الإسلاميين، الذين حمت السلطة الحالية المصريين منهم بانقلاب عسكري، ترك وراءه آلاف الضحايا من المدنيين القتلى، والمسجونين، والمشرّدين، والمختفين قسرياً، سواء كانوا من الإسلاميين "الأشرار"، أو من غير الإسلاميين "الأشرار" أيضاً، الذين وُصفوا في الأوراق الرسمية بأنهم "منضمّون إلى جماعة إرهابية مع العلم بأهدافها"، وجرى تبرير انتهاك أعمارهم بالقتل أو السجن بأنه "إنقاذ وطني".
اندفع سماسرة الدم في مصر، من كتائب "السوشيال ميديا"، وإعلام "المتحدة"، والمتعاونين "المدنيين"، يتحدّثون عن مأساة سورية التي كانت تنتظر مصر، لولا "30-6" (30 يونيو/ حزيران 2013)، والانقلاب في "3-7" (3 يوليو/ تموز 2013)، وما تلاه من مجازر. وعلى هوامش خطابات الكتائب، جاءت سجالات النُخَب المصرية في مواقع التواصل، لتعزّز من رواية الدولة، ليس بالضرورة انحيازاً لها، أو رفضاً لتهمة انتظار التحقيقات، وهي في رواية الدولة المصرية تهمة، لأن وجود إسلاميين في مسرح أيّ جريمة يعني بالضرورة أن الفاعل إسلامي (قولاً واحداً). ولكن لأسباب عدّة، يتعلّق بعضها بالمرارات، مرارات خصوم الإسلاميين الأيديولوجيين، ومرارات الإسلاميين السابقين من اللاحقين. ويتعلّق بعضها الآخر بالمصالح، خاصّة مصالح "المتمحلسين" إلى الدولة، بمشاركتها خطابات تبرير نفسها، بالتخلّص من الإسلاميين ومن الحكم الديني.
لسنا بحاجة إلى تذكير أحد بأن أحد أسوأ أشكال الحكم الديني هو ما تشهده مصر منذ الثالث من يوليو (2013)، فالدولة المصرية تقوم بواجب التذكير يومياً، في خطاباتها وفي ممارساتها. لكنّنا بحاجة دائمة إلى تذكير رفاقنا الممتلئين غضباً وحنقاً ومرارةً (بعضها مستحقّ) من الإسلاميين، بأن الوجه الوحيد لما حدث في يونيو ويوليو 2013 هو ضياع فرصة جيلنا "التاريخية" في تحويل شرعية الحكم في مصر من الدبّابة إلى الصندوق، وإهدار فرصة المجموعات المدنية "السياسية" في الوصول أخيراً إلى الشارع بأفكارها، بعد أن وضعت أداءات "الإخوان" وخطاباتهم في عام واحد مشروعهم في حجمه السياسي الطبيعي، وبدا لرجل الشارع العادي أنه مشروع شعاراتي بلا مضمون سياسي أو اجتماعي، فبات مستعدّاً لأن يسمع (ولأن يجرّب) من يطرحون أنفسهم بديلاً من العسكر ومن "الإخوان". لم نكن نحتاج أكثر من ثلاث سنوات من عمر تجربة محمّد مرسي، تتخلّلها بعد شهور من الانقلاب انتخابات برلمانية، كانت ستشكّل البداية الحقيقية، وفق أغلب التوقّعات، لتراجع شعبية الإسلاميين، وتقدّم آخرين من شباب الثورة. هذا هو وجه "30-6" الوحيد، وما دونه بروباغاندا العساكر وكتائبهم مدفوعة الأجر، وأدواتهم من الموظّفين، الذين يعملون ضدّ أنفسهم... مجّاناً.
