مرّت ذكرى مرور 50 سنة على الحرب الأهلية التي بدأت في 13 إبريل/ نيسان 1975، حين تحول لبنان ٳلى ساحة صراع، وكانت لها نتائج تدميرية وآثار مأسوية على مستقبل البلاد. ويعود زمن الذكرى من باب الدراية والحرص على عدم تكرار خطر النزاع والانقسام الداخلي، وعدم ٳهدار الفرصة الوحيدة المتاحة حالياً لبناء الدولة بعد فصول من الحروب المتتالية والمستمرة. وقد تكون المناسبة مدخلاً لتكريس الوعي الداخلي، على ما أبداه رئيس الجمهورية اللبنانية، جوزاف عون، أخيراً، ودعوته اللبنانيين إلى التسامح والوحدة، وٳنجاز مرحلة جديدة خارج وقائع الممارسات السابقة، وبما يشير ٳلى برنامج نهوض وطني مع ملامح صحوة محتملة في وعي اللبنانيين وأهمية تكاتفهم حول الدولة بكامل قوتها وهيبتها وانفرادها بقرار حمل السلاح.
لم يخرج لبنان كثيراً من وجوه التمزّق واليأس، ولم ينأَ بنفسه عن الحرب ٳلى حدود زوالها، وقد مكث طويلاً مسكوناً بها، ولم ينجح في انتشالها من الذاكرة، كما لم ينجح في التقاط مجموعة كبيرة من الفرص التي تضمّنت مسارات الخروج به من أزماته ٳلى مكان آخر، حتى أمسى كالخيط لٳهمال العالم له.
لخمسين سنة، بقيت الحرب مصدر كل شيء، لا تتوقف عن الاقتراب والابتعاد. كأنها حالة تجميد وطنية وصورها لا تزال مرئية، تتراجع وتتقدّم، تصغر وتكبر في آن واحد، مع كل مما يرونه حولهم في المنطقة من نزاعات وحروب أهلية والصدع القائم بين السلطة وعامة الناس الذين لا يقدرون على التواصل فيما بينهم.
لخمسين سنة، بقيت الحرب في لبنان مصدر كل شيء، لا تتوقف عن الاقتراب والابتعاد
لا يمكن فهم ما حصل من دون أخذ بالحسبان المسار الموجع للأوضاع والنظام السياسي الذي ساهم في العجز التجاري والسيادي وانحسار فاعلية القوانين ونشوء مناطق من العمران ذات خصوصية والنزوح والتهجير. والذكرى جديرة بالاهتمام للقراءة التاريخية الموضوعية التي يحتاجها اللبنانيون بعيداً عن التعميمات والتنشيطات التي تسود خطاباتٍ كثيرة. تم تأطير الحرب بأشكال مختلفة، وتم ربطها بذاكرات مختلفة من نوع آخر. واللبنانيون يردّدون في كل مرّة "ليس ثانية"، وليس تكراراً لأيٍّ من أشكال الحرب والعنف، والرد على من لا يزال متحمساً للبحث عن انتصارات سياسية أو عسكرية في مقابل عدم تشجيعه على التعويل على ذلك.
يتعلق أحد معاني الذكرى بالنظرات المتحوّلة لها، وجاءت الحرب أخيراً مع ٳسرائيل لتؤطر مواضيع كانت موجودة منذ سنوات، وتضاعف من حجم التدمير وانخفاض الدخل القومي والفقر والحصار والتضييق على النظام المصرفي والنموذج اللبناني الممنوع ٳسرائيلياً "سويسرا الشرق"، وتتركّز الأوضاع حول موضوع حزب الله بطريقة مختلفة، أي الاهتمام به بشكل مركزي، فيما كان الموضوع في السابق يبدو هامشياً. ففي خضم الحماسة تجاه تقليص مساحة انتشار هذا السلاح، يعود الموضوع ٳلى الواجهة، ويطرح أسئلة بشأن مدى استجابة الحزب لمقترح تسليم سلاحه، وتجاوز الأخطار الكامنة حول حمايته من هجمات المسرح العسكري والتهديدات الٳسرائيلية المحتملة. أي افتراض أن سيادة الدولة هي شكل يمكن أن يتجزأ هو بحكم المنتهي، ٳذ لم يعد ممكناً النظر ٳلى الأخطار بطريقةٍ لا يمكن تحاشيها، ويقف اللبنانيون أمامها جنباً ٳلى جنب.
الحرب مستمرّة بكل ذكرياتها وآلامها وتوصيفاتها
تعود الذكرى، وفيها تحدٍّ للمشاعر العامة، ويعود ٳليها اللبنانيون بالغضب وبعض اللاتعاطف تجاهها من نوع المرابطة على خطوط الانقسامات الداخلية، وحجز طاقات اللبنانيين واستهدافها مباشرة أو غير مباشرة، بعيداً عن المراجعة السياسية والمسؤولية عن الأخطاء التي ارتكبتها أطراف عديدة فاعلة عقوداً.
تنامت خلال 50 سنة الحركات الشعبوية والقومية على حساب الطبقة الوسطى والقيم الذاتية الفردية والفاعلة، وضاقت المساحات المشتركة التي تحوّلت ٳلى مساحات طائفية ومذهبية ساهمت في نشوء ولاءات اقتصادية خارجية لمختلف الفئات الاجتماعية اللبنانية، وجعلت لبنان ساحة مفتوحة لمختلف التناقضات الٳقليمية، فلم ينجح في الحياد والنأي بالنفس عن قضايا متفجّرة وخانقة تسببت بانهياره على المستويات كافة، السياسية والاجتماعية والمالية والثقافية.
بعد 50 عاماً، لا تزال الخلافات والانقسامات على حالها تقريباً في تحالف الطوائف وعلاقاتها الٳقليمية والدولية، ولجهة مخاوفها وهواجسها الذاتية وأخطار التقسيم المختلفة (اللامركزية والفيدرالية)، والمتشدّدون يتكاثرون في مطابخهم الٳعلامية هنا وهناك على بالغ الشدة والتوتر والعنف واستقواء بعضهم على بعض.
يستسهل اللبنانيون تسعير النار على وجه من انحسار فاعلية القوانين من دون العبور ٳلى النقد الذاتي على نحو أكثر وضوحاً وصراحة
لم يختلف الكثير عن الأمس، بحيث يعود اللبنانيون حاضرين وجاهزين لكل الاحتمالات، غير عابئين بٳطلاق الكيان المحتل حرباً عدوانية جديدة، تصيب العهد الجديد بالصميم، وتقضي على مشروع عودة الدولة والانتظام العام. والنتيجة واحدة، أن الحرب مستمرّة بكل ذكرياتها وآلامها وتوصيفاتها. قد تكون التصوّرات الأخيرة أنها آخر الحروب، وأن حروب الآخرين قد ولّت (جاءت ٳشارة الرئيس عون إلى الصواريخ المجهولة في الجنوب التي تعطي ٳسرائيل حجة استئناف الاعتداءات والانتهاكات، كأنها العودة ٳلى اتفاقية القاهرة 1969)، وأن النزاعات الداخلية ممسوكة في دولةٍ ذات قابلية للحياة، لا سيما مع استقرار الوضع الجديد في سورية، وما يجسّده نظام أحمد الشرع من آمال. لم يعد حاكم سورية كما الأمس، وباشرت ٳيران مفاوضاتها المباشرة وغير المباشرة مع الأميركيين، وقد تكون المفاوضات لكسب الوقت. لكن الأوضاع في المحيط تشير ٳلى أن اللبنانيين معنيون أكثر في ترتيب شؤون بيتهم الداخلي، فالوضع مختلف تماماً عما كان عليه في إبريل/ نيسان 1975. مع ذلك، خطر الحرب هذه المرة هو خطر زوال الدولة نهائياً، وليس بمقدور أي من الأطراف تحمّل مسؤولية ذلك. ولعل أفضل طريق يسلكها حزب الله أن يعتمد الدولة خياراً أساسياً، ليس للتجريب ولا لكسب الوقت. قد لا يكون الحزب معنياً بذلك كله. يستسهل اللبنانيون تسعير النار على وجه من انحسار فاعلية القوانين من دون العبور ٳلى النقد الذاتي على نحو أكثر وضوحاً وصراحة، وبكثير من المساواة والشفافية والرقابة والمحاسبة لحربٍ ليس صحيحاً أنها حرب السنتين. وليس صحيحاً أنها انتهت باتفاق الطائف 1989، أو باتفاق وقف ٳطلاق النار الجديد. يبدي حزب الله مرونة في مسألة الحوار المباشر مع رئيس الجمهورية لجهة نزع سلاحه، خالية من تهديدات المبعوثة الرئاسية الأميركية، مورغان أورتاغوس، وأطراف داخلية وخارجية، لكن ببيانات معاكسة. ويبدو في اهتماماته الراهنة معنيّاً أكثر من العلاقة مع ٳيران والمفاوضات الجارية مع الأميركيين بموضوع التململ في بيئته الحاضنة، وٳرادة جزء أساسي في متابعة المقاومة، وآخر يطالب بوضع حد نهائي للحرب والعيش بمساواة وسلام والتعاون مع باقي اللبنانيين، لٳنجاح حكومة نواف سلام وٳنجاز أولوياتها في موضوع الأمن والٳعمار، باعتباره تعريفاً وحيداً لتطبيق اتفاق وقف ٳطلاق النار بشروط الدولة، وليس "شرط كمال" كما ورد في وثيقة 2009 الخلافية بكل ما اعتراها من ويلات وعواصف في غير اتجاه.
كانت حرباً وأكثر. هذا درس تاريخي في التعاطي مع موازين القوى الخارجية وبحيادية إيجابية تجاه القضية الفلسطينية. ذلك أن استقرار لبنان وازدهاره قد يكونان أكثر العوامل مساعدة للفلسطينيين في نكبتهم ومواجهتهم نظام الأبارتهايد العنصري. والدرس التاريخي يعني النهوض بالخدمات الأساسية من ماء وكهرباء وتعليم وطبابة وعمل...، ويعني تحقيق المشاركة الفعلية والتوازن الداخلي في السلطة على أساس المواطنة الكاملة التي تبني الدولة والكيان.
