يكشف فيلم وثائقي بثّه التلفزيون السويسري، الأحد، عن استخدام الجيش الفرنسي للأسلحة الكيميائية والغازات السامة خلال مرحلة الثورة في الجزائر، واستعماله في ما يقارب 10 آلاف عملية لملاحقة الثوار، خاصةً في الكهوف والمغارات التي كانوا يلجؤون إليها مع المدنيين العزل هروباً من قصف الطائرات الفرنسية.
ويعرض فيلم "الجزائر، وحدات الأسلحة الخاصة"، خطط الجيش الفرنسي لاستخدام أسلحة كيميائية كانت محظورة بموجب بروتوكول جنيف لعام 1925، في الحرب ضدّ الجزائريين بداية من عام 1954 حتى عام 1959. ويؤكد المؤرخ كريستوف لافاي أنه جرى تنفيذ ما بين ثمانية إلى 10 آلاف عملية قصف بالغاز خلال ثورة التحرير، وتمكن المؤرخ من توثيق 440 منها، ورسم خريطة لتحديد مواقعها في الجزائر.
وعلى مدار 52 دقيقة يستحضر هذا الفيلم الوثائقي للمخرجة كلير بييه، ذكريات وأرشيفاً شخصياً لعدد من الجنود الفرنسيين الذين شاركوا في عمليات ضد ثوار الجزائر، وكذلك لثوار وشهادات مدنيين جزائريين عايشوا أو كانوا ضحايا لعمليات قصف بالغاز والأسلحة الكيمائية.
كذلك، يروي الفيلم شهادات ناجين جزائريين من مجزرة غار بن شطوح في منطقة الأوراس شرقي الجزائر، الذي تعرض لقصف بالغاز يوم 22 مارس/آذار 1959، وكان يوجد داخله نحو 150 شخصاً من سكان المنطقة.
ويقول الناجي عمار عقون عن ظروف الهروب إلى الكهف: "كان عمري 15 سنة، عندما هربنا إلى الكهف بعد بدء الطائرات القصف، ثم جلبت الأسلحة الكيميائية وقصف الكهف بها، وبعد رمي الغاز، تشكل دخان أسود كثيف، وبدأنا في الكح والسعال بسبب صعوبة التنفس، وكنا نشعر بخروج اللعاب من فمنا، ثم كنا نسقط الواحد تلو الآخر".
فيما قال شاهد آخر يدعى محمد العباسي: "كنت في 12 من عمري، وفي ذلك الكهف تمّ قصفنا بالغاز، بدأنا نسمع الصراخ والبكاء، سمعت أبي يطلب من عمّي ترديد الشهادتين".
وأظهرت وثائق بثها الفيلم من بحث موثق قام به المؤرخ كريستوف لافاي، عدداً هاماً من الوثائق العسكرية والسرية، توثق كيفية اتخاذ القرار السياسي من قادة الجيش الفرنسي في مارس 1956 لاستخدام هذا النوع من الأسلحة المحظورة، من بينها رسالة القائد الأعلى المشترك للمنطقة العسكرية العاشرة، التي تغطي الجزائر، إلى وزير الدولة للقوات البرية الفرنسية موريس بورجيس-مونوري، بعنوان "استخدام الوسائل الكيميائية"، تتضمن "زارني عقيد الأسلحة الخاصة وأبلغني أنه حصل على موافقتكم المبدئية بشأن استخدام الوسائل الكيميائية في الجزائر".
وتظهر وثيقة أخرى مؤرخة في سبتمبر/أيلول 1956، محضر اجتماع عقد بهيئة أركان الجيوش "دراسة للسياسة العامة لاستخدام الأسلحة الكيميائية في الجزائر"، التي كانت تهدف إلى تدمير الكهوف التي كان يختبئ فيها الثوار الذين كانت الوثائق آنذاك تصفهم بـ "الخارجين عن القانون"، وتحثّ الوثيقة قوات الجيش الفرنسي على أسر أو قتل من يختبؤون في هذه الكهوف وتدميرها وجعلها غير صالحة للاستعمال.
وعلى الرغم من أن فرنسا كانت أولى الدول الـ135 الموقعة على الاتفاقية المناهضة لهذه الأسلحة التي استخدمت بكثرة خلال الحرب العالمية الأولى، إلّا أن التحقيقات التاريخية أكدت أنه في ديسمبر/كانون الأول 1956، تقرّر إنشاء وحدة الأسلحة الخاصة لاستخدام الأسلحة الكيميائية وطرق استخدامها والأفراد الذين سيتولون هذه المهام، وأجرى الجيش الفرنسي في الجزائر اختبارات لتحديد "المنتج الواجب استخدامه في كل حالة معينة".
وتشير الوثائق التي عرضت أن الجنرال سالان، الذي كان من أبرز قادة الجيش الفرنسي المتطرفين في الجزائر، وزّع حوالى مئة فرقة عبر كامل التراب الجزائري، قبل أن يعيد مخطط شال النظر في هذه التنظيم سنة 1959. وقد أُخذت هذه المواد من مخزونات الحرب العالمية الأولى المتمثلة في غاز الخردل الذي كان معبأ في قنابل وعبوات، وهو مزيج سام يجمع بين مركب أرسيني وغاز الكلورو أسيتوفينون السام للغاية.
وأكد المؤرخ لافاي أن السلطات الفرنسية مازالت تتستر على عدد كبير من الوثائق والمعلومات حول استخدام الأسلحة الكيمائية في الجزائر، وأن هناك عشرات الوثائق المتعلقة بها رُفِضَ تمكينه من الاطلاع عليها في سياق بحثه عن الحقائق التاريخية. ويضاف ملف الأسلحة الكيميائية إلى عدد من الملفات العالقة ضمن مسألة الذاكرة بين الجزائر وباريس، وهو ملف يمكن اعتباره حديثاً مقارنة بملفات أخرى.
وعلى الرغم من مرور ستة عقود على استقلال الجزائر، إلا أنه لم يجرِ القيام بجرد لكامل العمليات التي استخدمت فيها فرنسا الغازات السامة والخردل والأسلحة الكيميائية بحق الجزائريين.
وبدأت هذه القضية في استقطاب انشغال واهتمام النخب والأكاديميين والسلطات الرسمية، إذ كان الرئيس الجزائري عبد المجيد تبون في حوار نشرته صحيفة لوبوان الفرنسية قبل شهر، طالب الدولة الفرنسية بتحمل مسؤولياتها عن استخدام الأسلحة الكيميائية ودفن بعضها في مناطق في الصحراء الجزائرية، وقال: "هناك أيضاً قضية الأسلحة الكيميائية المستخدمة في واد نموس، بدأت مسيرتي موظفاً حكومياً في بشار، غرب البلاد، في بداية السبعينيات، وتقريباً كل أسبوع كان لدينا شكاوى من المربين حول وفاة حيواناتهم. لا يجب أن ندفن هذه القضايا تحت السجاد ويجب حلها نهائياً".
