تتزاحم السيارات وتتعالى الأصوات على طرقات مدينة الجيزة المصرية الصاخبة، ليظهر بين الزحام مشهد مقتطع من زمان آخر. امرأة مسنة ترتدي ثياباً سوداء بالية، تمتطي ظهر حمار عجوز تخترق الشوارع المكفهرة، وكأنها تعبر بين عالمين متناقضين: عالم الفقر والكفاح، وعالم الترف واللامبالاة.
أم رجب هو اسمها. تؤكد أنه اسمها الأصلي، وليس لقبها، وتحكي لـ"العربي الجديد"، أنه جرت تسميتها بهذا الاسم تفاؤلاً بأن تكبر وتتزوج، فتنجب ابناً تسميه "رجب" على اسم جدها لأبيها. "لا يهم" تقول وهي تشيح بوجهها، فالاسم لا يعني لها شيئاً إلا حين تضطر للتعامل مع الدولة، وهي ليست مجرد فرد، بل تمثل آلاف السيدات اللواتي رفضن الانكسار أمام قسوة الحياة.
تخوض أم رجب معركة يومية للحفاظ على كرامتها، وعلى حياتها، وعلى مستقبل طفل صغير لم يذق طعم الأبوة، ولم يعرف سوى كفّ جدته الحنون التي كانت بديلاً لأمه الغائبة. وتروي أنها كبرت في أسرة فقيرة، وتزوجت شاباً كان بالكاد يجد قوت يومه، إذ كان يعمل على عربة كارو يجرها حمار، ثم مات تاركاً وراءه إرثا من الديون، وامرأة ثكلى، وابنة وحيدة.
اضطرت الأرملة إلى تسليم العربة إلى "الديّانة" سداداً لدين زوجها، وقد تكرموا بأن تركوا لها الحمار، أو بالأحرى الأتان، التي توالد نسلها في خدمة أم رجب، ومساعدتها في عملها الذي نادراً ما تعمل به امرأة، وهو جمع المخلفات والمهملات، وفرزها حسب أهميتها، ثم إعادة بيعها إلى تجار يتعاملون مع مصانع إعادة التدوير.
كابدت حتى كبُرت ابنتها، ثم تزوجت، وظنت أم رجب أن بمقدورها أن تستريح قليلاً، ولم تشأ أن تحمل ابنتها وزوجها أي أعباء تخصها، فقررت الاستمرار في عملها، لكن ابنتها لم ترث ملامحها وجيناتها فحسب، بل قدرها كذلك، إذ مات عنها زوجها الشاب في حادث سير، فعادت إليها أرملة ومعها طفل.
لم تحتمل الابنة الكفاح كما فعلت أمها، فألقت بحمولتها على أول رجل طرق بابها ليتزوجها، وكان أحد التجار المتعاملين مع الأم، وهو ميسور الحال، لكنه متزوج ويعيل، وطلب أن تأتيه من دون ابنها، فتركته لأمها، والتي وجدت نفسها مثقلة من جديد بطفل عليها أن تربيه كما فعلت من قبل مع ابنتها.
تقول أم رجب بسخرية: "حمارة المرحوم زوجي ماتت وتركت لي من نسلها من يساعدني ويحملني، بينما ابنتي تزوجت وتركت لي من نسلها من أحمله وأتحمل أعباءه". في البداية، ظنت العجوز أن ابنتها ستعودها كل حين لرؤية ابنها، ومساعدتها في تربيته ونفقاته، لكن الابنة مضت في عالمها الجديد، لتواجه أم رجب وحدها أسئلة حفيدها التي تكبر معه: "أين أمي؟ ولماذا حالنا هكذا؟ لماذا نحن وحدنا في مواجهة العالم، أنا وجدتي والحمار؟".
أدركت أم رجب بعد حين أن انتظار المساعدة لا يجدي، وأن الحياة لا تمنح فرصاً ثانية لمن لا يحفرون بأيديهم، وكان عليها أن تعمل، مع متطلبات الحياة التي تزداد، ولا تزال تعمل رغم أنها تجاوزت الستين. تخرج يومياً إلى الشوارع لتجمع المهملات، من القطع المعدنية الصدئة، والعلب الفارغة، وزجاجات المياه البلاستيكية، وكل ما يمكن بيعه، ويشتريه أولاد الحلال من تجار الروبابيكيا" كما تروي.
تبدأ العجوز يومها مع بزوغ الفجر، تلفّ وجهها بغطاء أسود يحجب ملامح الزمن التي رسمها التعب، وتنطلق بين الأزقة لتبحث في القمامة ومخلفات الآخرين عن ما يمكن أن يكون مورداً لحياتها. تقول بحكم خبرتها المتراكمة: "هناك أماكن يمكن العثور فيها على كنوز صغيرة، لكن المشقة لا تكون فقط في البحث، بل في نظرات الناس التي ترى الكفاح عاراً. لا أعيرهم اهتماماً، أو أراه مشهداً غريباً يستحق السخرية، خصوصاً عندما يسأل أحدهم: فين ولادك يا حاجة؟".
في كل ليلة، عندما تعود إلى غرفتها الصغيرة، حيث لا شيء سوى حصيرة قديمة وسقف متشقق، تراه نائماً، صغيرها الذي صار ضمن مسؤولياتها، حفيدها الذي تحلم أن تمنحه فرصة أفضل للحياة. ليس التعليم ترفاً بالنسبة لها، بل هو السلاح الوحيد الذي يمكن للإنسان أن يحمله في وجه القدر، وهي تحرص على التوفير لدفع مصروفات المدرسة، كي لا يحتاج حين يكبر إلى أن يجمع بقايا القمامة كما تفعل هي.
لا تخشى أم رجب على حفيدها من الفقر قدر خشيتها من أن ينشأ من دون أن يعرف قيمة الكرامة، لذا تعلمه دائماً أن "العمل ليس عيباً، وأن العزة لا تأتي من الجلوس وانتظار العطف، بل من السعي والكفاح".
لا يعلم المارّة الذين يرونها تعبر الشوارع على ظهر حمارها العجوز أنها ليست مجرد امرأة فقيرة، بل مقاتلة تقف وحيدة ضد عالم لم يكن رحيماً بها، وربما لا يعرفون أنها تحمل على كتفيها عبء حياة كاملة، لكنها رغم ذلك تبتسم لحفيدها كل ليلة، وتقول له: "لا تقلق، سنصمد".
هناك لحظات مشرقة، عندما يأتي أحدهم كي يمدّ يد المساعدة، ويدس في يدها بعض المال من دون إهانة، أو يمنح حفيدها قطعة حلوى تجعله يبتسم. هناك أيضاً من يراها متسولة، أو لا تستحق العيش، وكأن حياتها ليست ذات قيمة. تلك المواقف تزيدها صلابة، وتقول إن البكاء لن يُطعم الطفل الجائع، والاستسلام لن يحميه.
ربما يكبر هذا الطفل، ويتذكر كيف رعته جدته في الأوقات الصعبة، وكيف قاتلت من أجله، وكيف كانت مثالاً للصبر والعزة، وربما حين يسير في الشوارع يوماً، ويرى امرأة أخرى تكافح كما كافحت جدته، يتوقف، ويمدّ لها يد العون.
