يلاحظ متصفح منصات البث التدفقي الكم الهائل من الوثائقيات التي تحاول أن تقدم لنا العالم برصانة وشعرية، لتكشف لنا عن كوكب الأرض، والحياة، وجسد الإنسان، والمجرات، وباعة الطعام. كثير من المحتوى الذي يحاول أن يعطي للعلم معنى شعرياً، ويدعونا إلى التأمل في كوكبنا ومجرّتنا، ليتحول الوثائقي إلى شكل ترفيهي يدّعي قدرته على توسيع آفاقنا.
المقاربة السابقة نجد نقيضها الساخر لدى البريطانية ديان مورغن، التي قدمت شخصية، فيلومينا كونك، ضمن مجموعة من المسلسلات الوثائقيّة الساخرة، عن بريطانيا، وتاريخ البشرية، وعن "كوكب الأرض"، آخرها فيلم وثائقي تبثه منصة نتفليكس، يتناول "الحياة"، يحمل عنوان Cunk on Life (بالعربية: كونك تقدّم وثائقياً عن الحياة).
لفهم هذه الوثائقيات الساخرة، لا بد من فهم موقف فيلومينا كونك من العالم، هي امرأة لا نعلم إن كانت ساذجة أو تدعي السذاجة، تجربتها الذاتية وحياتها الخاصة هي مرجعيتها عن العالم، والأهم أنها تأخذ الكلام بمعناه الحرفيّ دوماً، سواء أكان نصاً مقدساً أو حقيقة علميّة أو فرضية فلسفية. ومن هذا الموقف، تنطلق في رحلة لفهم معنى الحياة.
لا يمكن تلخيص حكاية الفيلم، لكنه يتدفق بالصورة التقليدية للأفلام الوثائقية الجديّة، يبدأ بطرح سؤال عن معنى الحياة، لينتقل بين الدين والعلم والفلسفة والعلوم التطبيقية، في محاولة للإجابة عن هذا السؤال. وهنا تظهر مهارة صناع الفيلم، خصوصاً الكاتب تشارلي بروكر، الذي عمل كاتباً ومنتجاً تنفيذياً في المسلسل الشهير "المرآة السوداء"، إذ تقف كونك أمام علماء ورجال دين لتحيرهم بأسئلة شديدة البساطة، تبدو ساذجة، لكنها في الوقت نفسه تسبب صمت من أمامها وتحديقه في وجهها وكأنه يسأل: "هل كلامك جديّ؟"؛ إذ تطرح كونك سؤالاً من قبيل: "ما عدد الأكوان اللانهائيّة؟".
اللعب على الكلام واستفزاز الآخر بسذاجة لا يخلو من الفكاهة التي تظهر بالتناقض بين جدية السياق، وسؤال كونك الذي يبدو في بعض الأحيان شديد النقدية والعمق إلى حد أنه يدفع المحاور إلى الصمت، كسؤالها لواحد من أهم العلماء في مسرّع سيرن في سويسرا للذرات، براين كوكس: "ألا يمكن وضع اللحم المقدد داخل المسرّع؟". سؤال يبدو ساذجاً، لكن أيضاً لا نسمع جوابه.
ضيوف الوثائقي علماء جديون، يعرفون أنهم سيظهرون في برنامج ساخر، إلا أنهم لا يعرفون أي شيء عن الأسئلة التي سيواجهونها. ما يثير الريبة هو الجدية المفرطة لدى العلماء، بعضهم لم يضحك أو يبتسم حتى، حافظ على جديته حتى أمام أتفه الأسئلة، وكأن العلماء والباحثين لا يضحكون.
إن أردنا المبالغة في قراءة الوثائقي الساخر، يمكن القول إنه يكشف عن التعجرف الذي أصاب كثيراً من القائمين على المجتمع العلمي، إذ تُوظَّف السذاجة والكوميديا لتكتشف ليس فقط الغطرسة، بل اليقين الذي يردد به العلماء بعض المسلمات. مثلاً، تسخر كونك من عالم أحياء بيولوجية قائلة إن "40% من البشر يمتلكون هيكلاً عظمياً"، ما يثير استغراب العالم. لكن الحسم السريع في عدم النظر في فرضيات كهذه، يكشف لنا عن أسلوب عمل المؤسسة العلميّة، صاحبة الأحكام النافذة والقطعية.
ننتقد المؤسسة العلمية كونه بعد وباء كورونا وسوء إدارة الأزمة الصحية، فتحت نيران المشككين، بفعالية اللقاح، على العلماء. في الوقت نفسه، فُتح الباب أمام أًصحاب نظريات الأرض المسطحة وغيرها من نظريات المؤامرة التي تشكك في المؤسسة العلمية. وهنا المريب، المؤسسة العلمية ردت بشدة ولم تفتح المجال أمام الآراء المختلفة، إلا في ظل الترفيه، وهذا ما تبنته "نتفليكس" نوعاً ما، من خلال فتح الباب أمام وثائقيات عن الكائنات الفضائية والأرض المسطحة وغيرها من المقاربات، كي لا تكون حكراً على زوايا منتديات الإنترنت المظلمة، فلا تخضع إلى رأي الجمهور وسلطته القاسية، وهنا بالضبط تأتي أهمية كونك، كونها تتعامل مع الحقيقة العلمية والإنسانية بوصفها محط السخرية وادّعاء الحماقة، أي بصورة أخرى، محط السؤال.
