كي لا تُحدِث ثورة السوريين مظلومياتٍ جديدة

منذ ٥ أيام ٢١

يقود ما حصل في الساحل السوري أخيراً إلى تأكيد غياب الخطوات الضرورية التي وجب القيام بها باكراً، وكانت كفيلة بتفتيت المخططات قبل تنفيذها، خاصة لجهة اقتران أقوال الطمأنة والمساواة بالأفعال، وغلبة منطق الدولة على الفاعل ما دون الدولة. وفي المحصّلة، تخسر الإدارة الحالية الوقت الذي يُمكّنها الاستفادة منه للبدء بالبناء المتين، والمعارضون لم يقبلوا بالوضع ولم يتقدّموا خطوة صوبها. وفي معمعة التجاذبات، وجدت فلول النظام السابق أفضل الفرص والمساحات للتغلغل واستغلال الفجوات. حصلت الكارثة ووقع المحظور، ولم تنجح الإدارة الحالية في فرصة اختبارها الأول، على مستوى التعامل مع المجتمع المحلي، والأكثر حرجاً أمام المجتمع الدولي والإقليمي والمتربّصَين بها، ثم عادت واستدركت الأمر عبر خطاب الرئيس أحمد الشرع، وقوله إن التمرّد الحاصل من فلول النظام، تدعمه جهاتٌ خارجية، وهو ما يعني إعادة ترتيب العلاقة بين سورية وروسيا، واستمرار قطع التواصل والعلاقة مع إيران.

النقص الحاد في الكفاءات المطلوبة لإدارة البلاد كان يُمكن سدّه عبر الاعتماد على الشخصيات النزيهة والأكاديمية وضباط الجيش المنشقين، لكن هذا كله يحتاج إلى سيولة مالية ضخمة، لا تتوافر حالياً في خزينة الدولة، وليس واضحاً متى سيبدأ ضخّ المساعدات العربية والدولية لها، ما دامت العقوبات مفروضة، ورفعها مشروط بتغيّر السلوكيات والموقف من المكونات والشراكة السياسية، لذلك المطلوب الآن فوراً وليس بعد قليل تصحيح الوضع بكل السبل، بالإضافة إلى قوننة العملين، الأمني والاجتماعي، وتحقيق العدالة الانتقالية اليوم وليس غداً؛ فالقواعد الاجتماعية متلهّفة للبدء بتطبيق مخرجات الثورة، لكنها أيضاً تطالب بصون كرامات الناس وتحقيق حقوق الضحايا، وليس تحقيق كثافة جديدة لضحايا جدد.

قال الرئيس السوري أحمد الشرع إن النظام الساقط خلّف جراحاتٍ عميقة في أثناء فترة حكمه، فرع فلسطين وصيدنايا والأفرع الأمنية والاغتصاب والكيماوي والتهجير وهدم البيوت على رؤوس ساكنيها، ذلك كله ترك جراحاً من الصعوبة بمكان أن تندمل، كان من نتائجها ما حدث أخيراً، رغم سعي الدولة، من اللحظة الأولى للانتصار، إلى منع وقوع ذلك. ما قد يُشير، بوضوح وبأسف، إلى تحويل مشاعر الكراهية والغضب إلى سلوكيات العنف المفرط ضد المدنيين، وكأن بالعقل الجمعي يسعى إلى استجرار عذابات الماضي، وتخصيص شفائها بعذابات الآخرين، وهذه أخطر الانزلاقات التي ستقود البلاد للهاوية والحتف.

يمكن أن يترافق انتصار السوريين بتحوّلات اجتماعية مهمّة، لكنّ المؤسف أن يكون أضعفها على صعيد السلم الأهلي، وطي صفحات الماضي

فبانتهاء حقبة الأسد، من المفترض أن تبدأ معها مرحلة التغيرات السياسية المطلوبة، سواء العدالة الانتقالية، حرية الإعلام والصحافة، حركة الاقتصاد، مصادر التشريع، التعدّدية السياسية... إلى غير هذه كلها من الملفات المحظورة البتّ فيها سابقاً. علماً إنه لا تغيير حقيقياً، إن لم يكن في بنية المعتقد والأفكار والعقائد؛ فهذه العناصر ترسم دور المؤسّسات، وتقود إلى نشوء الآراء والأفعال التي تحدّد السلوك، وكل ما كان مؤدّياً أو ذاهباً باتجاه سلوكٍ مُشين أو مؤذٍ سيكون من الانتحار العودة إليه. فمنشأ الثورة السورية كان عقلانياً دُمجت أسباب التحضير لها بالعواطف والمشاعر مع المنطق العقلاني. ولذلك نجحت في التأثير في الجماهير وفي إسقاط النظام، لكن سلوك الثورة غير عقل الدولة، ولا بد أن يكون العقل جمعياً، حول إزالة مظالم نظام استبدادي مكروه، ولحاكم لا يحظى بالشعبية، أو أن أياماً سوداء ستكون في انتظار البلاد؛ لأن الثورة بُنيت على أساس المظالم والانتهاكات التي قامت بها قوات النظام السوري، ومؤسّساته وأفرعه الأمنية والسياسية. والثورة عليها يعني إزالتها من الجذر والأساس، وليس العودة إليها مُجدّداً. ولن تتمّ هذه الازالة قبل إنعاش الآمال لدى المجتمعات المحلية.

حان وقت انتهاء عقل الثورة، والفواعل ما دون الدولة، وألا تكون الثورة نقطة انطلاقة الدولة، إلا في ما يخصّ الانتصار على المظالم والفساد، فالثورات ذات النتائج العظيمة هي تلك التي تطاول السلوك والأفكار. وليس تغيير علم البلاد ونشيدها وشعار الدولة أو حتى اسمها سيكون كافياً بتغيير ذهنية شعبها. الثورات الحقيقية بنتائجها هي التي ترفض أولاً تكرّر أسباب نشوئها وتطوّر من أدائها من عشوائية السلاح إلى الانضباط والالتزام وحصر السلاح بيد الدولة واستخدامه في الأزمات. ولنعترف أن الدمار الذي ألحق بسورية وما خلّفه سلاح الجو الإسرائيلي على مختلف مراكز البحوث العلمية التي كانت تعاني أساساً من الفقر والتهميش، فإنه من شبه المستحيل أن يكون لدى السوريين جيل قادر على إنتاج ثورة علمية تحمل نتائج بعيدة المدى، والتي لا تتمكن عادة الثورات العسكرية والسياسية من إنتاجها. وعلى أساسه، لا ثورة تكنولوجيا وتطوير وتسليح متقدّم ونوعي واكتشافات في سورية عشرات الأعوام، وبعد فداحة ما خلّفته الثورة العسكرية خلال 14 عاماً، وما ارتكب حالياً من فظائع وانتهاكات في الساحل ضد المدنيين والأمن العام وصفتها وزارة الخارجية الأميركية بالمجازر ضد الأقليات، لم يبق أمام السوريين سوى الاتفاق على ثورةٍ سياسيةٍ بعيدة عن منطق العاطفة، ويقوم على أن الإيمان بالله يقود، أولاً وقبل كل شي، إلى منح حقّ الحياة. أما إذا كان المعتقد السياسي الحالي والمستقبلي سيمثل فعلاً سلبياً، يُعد ويحضر في اللاوعي، وليس للعقل أي تأثير عليه، فانه هو الآخر سيقود إلى المصائب.

إن أرادت السلطة في دمشق الاستمرار وإيصال البلاد إلى برّ الأمان، لا بد لها من التوازن بين المكوّنات والهويّات الفرعية

ما أخشاه أن يكون السوريون مصرّين على تاريخ حافلٍ بالدمار، فعقد ونيّف من الدم يجب أن يتحوّل إلى سلوكيات الاستقرار لا الانتقام، وإذا كانت أحداث الساحل السوري تُهندس وفق فكرة أن انتصار فريقٍ سيعطيه الحق الطبيعي في السعي إلى تنظيم المجتمع وفقاً لمصالحه. وسيختلف ذلك التنظيم في تكوينه، وفقاً للفريق الفائز من العسكريين أو الراديكاليين أو المحافظين أو الوسط أو الائتلاف السياسي. وإذا ما ذهبت تلك الفكرة إلى التطبيق على أساس أنها القاعدة، حينها سيكون القانون والمؤسسات خاضعة لمصالح الفريق المنتصر. والمخيف أكثر أن تكون نتائج النصر متمّمة لنتائج الصراعات العنفية؛ لأن المنتصرين سيرمون بكامل جهاز النظام السابق ويطردونهم ويلاحقون حتى الأبرياء منهم، بل سيتطوّر العنف والانتهاك إلى أقصى الحدود، لأن الفريق المنتصر لن يبقي للمغلوب حتى الحلم بأي شكل الرأفة. وهذه القوة المطلقة التي يقوم عليها المنتصر ستقود أنصاره إلى التجاوزات المخيفة. وفي المقابل، سيجد في بدايات حكمه عناداً ومعارضة مجتمعياً ومن الرأي العام ضده، ليجد الحاكم أن الشرط الأول لاستمرار حكمه سيتركّز في عدم المبالغة في تفضيل طبقة واحدة حصراً، بل السعي إلى مصالحتها جميعاً.

إن أرادت السلطة في دمشق الاستمرار وإيصال البلاد إلى برّ الأمان، لا بد لها من التوازن بين المكوّنات والهويّات الفرعية، وبمجرد السماح لفئةٍ أن تصبح مهيمنة يعني أن تعود بالوبال والكوارث على الطبقة الحاكمة نفسها، وفي أكثر الأوضاع خطورة، وهذا القانون هو أحد أكثر قوانين علم النفس السياسي. يمكن أن يترافق انتصار السوريين بتحوّلات اجتماعية مهمّة، لكنّ المؤسف أن يكون أضعفها على صعيد السلم الأهلي، وطي صفحات الماضي، والأغلب أن ما حصل في الساحل لن يُنسى بالسهولة المتوقعة.

قراءة المقال بالكامل