مسلسل Severance... عبثية العيش في حياتين منفصلتين

منذ ٢ أيام ٢٤

يواجه مبدعو مسلسلات مثل Severance (يُعرض على آبل تي في) تحدّيات معقّدة للاستمرار بعد موسمٍ أوّل ناجح. قد يعتقد المرء أن صنّاع العمل فكّروا منذ البداية في حبكته بالكامل، وأن لديهم فكرة واضحة عن الاتجاه الذي ينحو إليه كل شيء. إذا كانت هذه هي الحال -وهي ليست كذلك دائماً، كما اعترف العديد من المنتجين- فالصعوبة تكمن في كيفية الوصول إلى هناك، وفي أي فترة زمنية، ومن خلال أي آليات سردية أو فخاخ وبأي موارد جمالية.
حالة Severance معقّدة لأنه ليس مسلسلاً تقليدياً. ليس دراما واقعية ولا كوميديا ولا قصة خيالية على الإطلاق، إنما مزيج من كل هذه الأشياء أكثر. إذن، أين يغوص العمل عميقاً؟ هل عبر التوغّل أكثر في المشاعر والعواطف التي يعيشها الأبطال؟ أم من خلال الاستمتاع بإظهار عبثية العيش في حياتين منفصلتين داخل حياة واحدة؟ أم بالتعمّق أكثر فأكثر في الأساطير الغريبة والألغاز العديدة المحيطة بكل ما يحدث في شركة لومون، بدءاً من العملية المحدّدة لـ"فصل" أدمغة موظّفيها إلى نيّات هذه الشركة المتطرّفة؟
قرّر مبتكر المسلسل، دان إريكسون (بن ستيلر هو المنتج، وأخرج عدة حلقات وهو الواجهة المرئية، لكن الرأس وراء Severance هو إريكسون)، بذل قصارى جهده وراهن على المزيد من الكثافة، والأساطير، والمشاعر، والفكاهة، والمزيد من الميزانية. والنتيجة؟ مسلسلٌ غريب وغامض، يحوي مشاهد يمكن تخيّلها بتوقيع ديفيد لينش، لكنه في الوقت نفسه يظلّ على أرض الواقع في ما يتعلق بالصدق العاطفي لأبطاله.
Severance عملٌ صبور وبعيد المنال يسكنه بشر يمكن التعرّف إليهم. وهذا يجعل عالمه الأسطوري لا يقع على آذان صماء، ولا يبدو كأنه لعبة حيل سردية. تأتي أفضل مَشاهد هذا الموسم من لحظات لا علاقة لها بهذه الألغاز، مثل عشاء غريب، واجتماع مفاجئ في مطعم، وعناق محرج، لكنها تشكّل النواة الصلبة التي تدعمها، من دون شخصيات مضطربة ومربكة مثل أبطاله الأربعة الذين هم ثمانية فعلياً؛ واحد داخل لومون، وآخر خارجها، بفضل تكنولوجيا الفصل بين ذكريات موظّفيها الشخصية والعملية، فلا يتذكّر الموظّف بعدها ما يحدث داخل مبنى الشركة إلا وهو داخله، ولا ما يحدث في حياته الشخصية إلا حين يكون خارجه. كل شيء سيكون بلا جدوى. حبكة مثيرة للاهتمام ومفاجئة، نعم، لكنها فارغة. بفضل شخصياته اللافتة، يحافظ المسلسل على جاذبيته وقوّته الدافعة.
في نهاية الموسم الأول، تمكّنت الذوات الداخلية (Innies)، كما يُطلق على النسخ العاملة داخل الشركة، للموظّفين الأربعة في ما يسمّى "قسم تنقية البيانات الضخمة" (MDR) من الوصول إلى ذواتهم الخارجية (Outies)، على الأقل لفترة من الوقت مكّنتهم من معرفة شيء ما عن هويّاتهم في الخارج وكيف يعيشون. ومن بين أمور أخرى، يكتشف مارك (آدم سكوت) أن زوجته غيما ربما لا تزال على قيد الحياة، وهي المرأة التي تعرفها ذاته الداخلية، داخل لومون، باسم الآنسة كيسي (ديتشن لاكمان). بينما يكتشف زميله إيرفينغ (جون تورتورو) أنه يرسم في الخارج أشياء مظلمة للغاية، وأن صديقه المقرّب بيرت (كريستوفر واكن) في علاقة عاطفية، بينما اكتشف ديلان (زاك شيري) من قبل أنه في الخارج لديه عائلة. ولعل الأمر الأكثر إثارة للدهشة اكتشاف هيلي (بريت لوور)، والمشاهدين معها، أنها في الخارج ابنة مالك الشركة ووريثته الرئيسية.
مع بداية الحلقة الثانية، يعود مارك إلى شركة لومون، ليجد أن أحداً من زملائه في العمل لم يعد موجوداً. أصبح سيث ميلشيك (ترافيل تيلمان) الآن مديراً للطابق، ليحلّ محل الآنسة كوبل (باتريشيا أركيت) المفصولة، وتساعده الآن فتاة غامضة (سارة بوك). استُبدل زملاؤه في العمل بآخرين (بوب بالابان، وعلياء شوكت، والإيطالي ستيفانو كارانانتي)، لكن مارك لا يريد التغيير ويطالب بعودة القدامى. 

تخدم أحداث أول حلقتين (واحدة داخل شركة لومون والأخرى خارجها) هدف إعادة تجميع القطع وفهم العالم أكثر قليلاً بناءً على الاكتشافات السابقة. يزعم ميلشيك أن هناك أشياء تم القيام بها لتحسين التجربة في الطابق. لكن هذا يثبت زيفه، مثل معظم الوعود. يبحث مارك عن كيسي/غيما في الداخل ولا يستطيع العثور عليها. تخبر الذوات الداخلية بعضها بعضاً بما تعلّمته من الخارج، لكن ليست كلّها تقول الحقيقة. هنا تبدأ بعض التوتّرات والشكوك بينها جميعاً. وفي الوقت نفسه، يواصل مارك في الخارج محاولة كسر الحواجز مع الداخل، فيما نرى المزيد من هيلينا في دورها مديرةً تنفيذية للشركة.
في خضم كل هذا، يستمرّ Severance في توسيع أراضي شركة لومون، خاصة كل ما يتعلّق بأساطيرها، وعلاقتها بحيوانات معيّنة، ولغز مكاتبها وسر ما يجري هناك حقاً، مع الاحتمال المتزايد بأن يبدأ كلا الكونين بالتواصل معاً، بإرباك. في الوقت نفسه، تتواصل الحياة الشخصية والعاطفية للجميع بكثافة، وإن لم يأتِ ذلك دائماً بالنتائج المرجوة أو المتوقعة. يوسّع Severance أفق معانيه، ويستمر في توسيع أسطورة لافتة بتزايد (تشبه تلك التي في مسلسل Lost أكثر من Twin Peaks)، يُفترض أن يكون لها منطق داخلي وشيء من التماسك. بعبارة أخرى، توسيع اللوحة المرئية والموضوعية للمسلسل من دون فقدان التركيز تماماً على مكوّنه البشري.

_____________________

يكمن سر Severance في هذا، في خلق لغز مركزي قوي ومتين ولكن من دون إهمال الأشخاص الذين يحاولون فكّ شفرته. في الأخير، هذا مسلسل عن العمل، عن العلاقة بين ما يجري في المكتب والحياة التي يعيشها الناس خارجه (تقسيم وفصل كل مساحة والعواطف التي يعيشها كل شخص)، وعن الطريقة التي يكون بها العمل لساعات طويلة، كما هو الحال في شركة لومون، أيضاً طريقة لعدم الاضطرار إلى التعامل مع المشكلات الحقيقية (والصدمات العاطفية) التي يعانيها الجميع خارج هذا المكان اللاشخصي أو المبني للمجهول على ما يبدو.
في الموسم الثاني، تنمو الشخصيات وتظهر مناطق غير مستكشفة لكل منهم. حول سكوت المضطرب، تؤدي لووير عملاً رائعاً، فتجسّد عدة نسخ من شخصية محاطة بالأسرار، الشخص الوحيد الذي يبدو أنه يعرف حقيقة الأشياء. لكن ممثلين، كـ واكن وأركيت وتورتورو وتشيري وتيلمان، يقدّمون كثيراً أيضاً لبناء الدراما المحيطة بالغموض، إذ أصبح ميلشيك الآن بطلاً تقريباً مثل الآخرين. 
يمكن اعتبار Severance نسخة معقّدة وذكية من "لعبة الحبّار" (Squid Game). تدور أحداث المسلسلين حول الفكرة نفسها تقريباً: أشخاص منكوبون يدخلون إلى "مساحة عمل" عنيفة نفسياً وإنسانياً، حيث يتعيّن عليهم محاولة النجاة، بينما خارجها مَن يريدون دخولها لتدميرها. لكن الاختلاف الرئيسي هنا أن "المعركة" أقل عنفاً بين الأقران، وأكثر بين أولئك الذين يعملون وأولئك الذين يتلاعبون بهم ويسيطرون عليهم. في جوهرهما، يدور كلا المسلسلين حول كيفية كسر السرد المهيمن المتحكّم في تصرفات الناس من خلال السلطة/القوة. ليس الأمر سهلاً في أحد المسلسلين دون الآخر، وأقل من هذا بكثير، على ما يبدو، في الحياة الواقعية أيضاً.

قراءة المقال بالكامل