ناقوس خطر في تونس

منذ ٥ ساعات ١٩

أصدرت مجموعة من نشطاء وشخصيات سياسية داخل تونس، قبل أيام، بيانا يطالب الرئيس قيس سعيّد بالتنحي الفوري عن السلطة. وحذر البيان من خطر انهيار الدولة بسبب مناخ الخوف الذي يهيمن على المشهد السياسي والإعلامي بعد سنوات من القمع والانغلاق، وانتهاك الحقوق والحرّيات، نتيجة الحكم الفردي لرئيسٍ تُشكّك تصريحاته المتشنجة وتصرفاته الغريبة وقراراته المتضاربة في قدراته العقلية على إدارة البلد وقيادتها. وقد جاء هذا البيان ليذكّر العالم مرة أخرى بمآل البلد الذي كاد يشكل نموذجا ناجحا للانتقال الديمقراطي السلمي بعد ثورات "الربيع العربي"، لولا "حادث السير" الذي جاء برجل شعبوي بلا كاريزما، ومن دون أي تجربة سياسية أو إدارية أو قيادية إلى سدّة الحكم عام 2019. وبالرغم من أن هذا البيان جاء متأخّراً، إلا أنه جاء في وقته ليحذّر الشعب التونسي من الأسوأ القادم لو استمر الوضع كما هو عليه، فكل المؤشّرات في تونس تؤذن بقرب حلول الكارثة.

عندما قام قيس سعيد بحركته الانقلابية عام 2021، وأعلن إلغاء الدستور وحل البرلمان وإقالة الحكومة وإعلان حالة الطوارئ، كتب صاحب هذا المقال أن الأمر يتعلق بانقلاب حقيقي كامل الأوصاف. وفي نقاش مع أصدقاء من تونس، كانوا يحاولون أن يجدوا تبريراً لما كان يجري في بلدهم بأنه محاولة لوقف النزيف المستمر لهدر الزمن التونسي في صراعات ومناكفات سياسية بين الخصوم السياسيين، ولم يراع كثيرون من منتقدي الوضع السابق قبل انقلاب سعيّد أن الفترات الانتقالية، خصوصاً بعد الثورات، تكون صعبة وطويلة، ومع ذلك، فإنها في الحالة التونسية، استعادت للناس بعضاً من كرامتهم وحريتهم في التفكير والتظاهر والتعبير عن الرأي بحرية، لكن المتحمسين للانقلاب لم يكونوا يرون في الحرية سوى آفة ستدمر الدولة والمجتمع من الداخل، ويجادلون بأن قوة الدول والمجتمعات تُقاس بمدى قوة اقتصادها وليس بعدد المظاهرات التي تشهدها شوارع مدنها أو منسوب الحرية في وسائل إعلامها وداخل فضائها العام، وهذه حقيقة كان يُراد بها تزيين باطل، وهو الانقلاب الذي جاء بيان المطالبة بالتنحية ليحذر من خطر استمراره.

بيان المطالبة بإقالة قيس سعيد هو بمثابة ناقوس خطر لإنقاذ ما يمكن إنقاذه قبل الانهيار الفعلي للدولة التونسية، ومن أجل إعادة الثقة إلى التونسيين في بلدهم

بعد مرور زهاء ست سنوات على وجود قيس سعيّد حاكماً بأمره، في قصر قرطاج، تشهد كل المؤشرات السياسية والاقتصادية والاجتماعية في البلاد تراجعاً مهولاً، وغليان الشارع التونسي يتصاعد يوما بعد يوم، أما الحرية التي اعتبرها البعض ترفا، وضاق آخرون بها ذرعا في الفترة الانتقالية، بعد ثورة 2011، فأصبحت عملة نادرة بعد تجريف منابعها من خلال ضرب التعددية السياسية وتفكيكها تدريجيا بحل الأحزاب والحجْر على ما تبقى منها، وقمع حرية الصحافة التي يجري تكميمها بالاعتقالات والمضايقات، وتمييع (وتدجين) نشاط المجتمع المدني الذي كان يضرب به المثل في الحيوية واليقظة وقمع آخر الأصوات الحرة داخله. كل الإيجابيات التي جاءت بها الثورة أصبحت من الماضي القريب.

لم يبدأ الانحراف الاستبدادي اليوم، وإنما منذ الفراغ الذي جاء بقيس سعيّد إلى السلطة، وسلسلة قراراته الانقلابية التي بدأت بالانقلاب على دستور الثورة التونسية، وحل البرلمان المنتخب بطريقة ديمقراطية واعتقال رئيسه، وحل الحكومة المنبثقة عنه، وإعلان حالة الطوارئ، ومنح نفسه صلاحيات تنفيذية وتشريعية كاملة وواسعة، واستعباد القضاء من خلال وضع سلطة تعيين وعزل القضاء تحت تصرّفه. وشن سلسلة اعتقالات في صفوف معارضيه من السياسيين والإعلاميين قبل الانتقال إلى اعتقال الموالين له ومن ساندوا انقلابه، وإعادة انتخاب نفسه مرشحا وحيدا بعد أن سجن جل منافسيه.

خلال ست سنوات، هي عمر حكمه، وتونس في حالة انقلاب مستمرٍّ يسيرها رئيس مستبد بمراسيم يوقعها ويعلنها في المنتصف الأخير من الليل. وفي هذه المدة القصيرة، غيّر ستّ مرّات، بمعدل مرة كل سنة، رؤساء الحكومات وعشرات الوزراء وكبار المسؤولين الذين كان يُعيِّنهم ويُقيلهم بدون سابق إنذار ومن دون أن يعرف الشعب التونسي على أي أساس جرى اختيارهم قبل تعيينهم ولماذا ولأية أسباب تمت إقالتهم. أما البرلمان فتحوّل إلى مجرد غرفة تسجيل باردة بعد أن كان ساحة للنقاش السياسي، بل وحتى للصراع السياسي بين الخصوم السياسيين.

لم يبدأ الانحراف الاستبدادي اليوم، وإنما منذ الفراغ الذي جاء بقيس سعيّد إلى السلطة، وسلسلة قراراته الانقلابية

أبرز السياسيين، ورجال الدولة ونسائها السابقين، من خصوم انقلاب قيس سعيّد ومن مؤيديه، كما أبرز الصحافيين والمحامين والنشطاء، موجودون في السجن أو فلتوا بجلودهم خارج بلدهم، ومن بقي منهم حرا داخل تونس يعتبر نفسه في حالة سراح مؤقت يمكن أن يفاجئه زوار الفجر في أية لحظة، ويجد نفسه وراء القضبان بتهم واهية. وفي الأشهر الأخيرة، تزايدت المحاكمات ضد الأصوات المعارضة، وصدرت أحكام قاسية عن محاكمات شكلية، دفعت المفوضة السامية للأمم المتحدة لحقوق الإنسان إلى الإعراب عن قلقها إزاء الضغوط السياسية المتزايدة التي يمارسها النظام على المعارضين السياسيين والصحافيين والمحامين والقضاة والمدافعين عن حقوق الإنسان ونشطاء المجتمع المدني. وفي المقابل، تقوّت الأجهزة الأمنية القمعية، وعادت إلى تغولها السابق في عهد الرئيس السابق المخلوع زين العابدين بن علي تنشر القمع وتبثّ الخوف. وعلى المستويين، الإقليمي والدولي، باتت تونس تعيش عزلة إقليمية ودولية قاتلة غير مسبوقة، ومؤشرات وضعها الاقتصادي تحت الصفر أو تقترب منه بعد أن فقدت المؤسسات المالية الدولية الثقة في الاقتصاد التونسي، والوضع الاجتماعي ينهار تدريجياً بسبب أزمات غلاء الأسعار والتضخم وارتفاع نسب الفقر والبطالة وفقدان المواطن الثقة في مؤسسات الدولة.

على المستوى الخارجي، ساهم الوضعان، الإقليمي والدولي، بكل ما يعرفانه من أحداث كبيرة، وحروب واضطرابات عميقة وتحولات سياسية مثيرة، في تحويل الأنظار بعيداً عما يجري في تونس طوال السنوات الماضية. وغير خافٍ أن الديكتاتوريات، مثل الفيروسات، تنتعش في مثل هذه السياقات الدولية المضطربة التي تستغلها هذه الأنظمة التي تحكم بسياسة التخويف من وجود المؤامرات في كل مكان لإيجاد أعداء في الداخل والخارج لتبرير الفشل وتوحيد من تبقوا من الموالين حول الزعيم المنقذ، وتحييد آخر الخصوم والمعارضين. لذلك، بيان المطالبة بإقالة قيس سعيد هو بمثابة ناقوس خطر لإنقاذ ما يمكن إنقاذه قبل الانهيار الفعلي للدولة التونسية، ومن أجل إعادة الثقة إلى التونسيين في بلدهم، وفي ثورتهم التي صنعتها إرادتهم، وهذه مازالت حية لا تموت.

قراءة المقال بالكامل