في عصر السينما الصامتة، عندما كانت التجريبية تهيمن على صناعة الأفلام، أراد المخرج فريدريش فيلهلم مورناو أن يقدّم نسخة سينمائية من رواية "دراكولا" للكاتب الأيرلندي، برام ستوكر، لكنه واجه عقبة قانونية تتعلق بحقوق النشر، ما مثّل عائقاً في البداية، تحوّل إلى فرصة للابتكار، إذ أعاد مورناو تشكيل المادة الأصلية، ما أسفرعن التحفة الكلاسيكية "نوسفيراتو" (1922) التي تعد، إلى جانب "خزانة الدكتور كاليغاري" (1920)، إحدى أعمدة سينما الرعب والتعبيرية الألمانية. بعد أكثر من خمسين عاماً، أعاد المخرج الألماني فرنر هرتزوغ تصوير رواية "دراكولا" في "نوسفيراتو مصاص الدماء" (1979)، مقدماً رؤيته الخاصة في نسخة أكثر قسوة وشبحية، غنية بالتأملات الإنسانية والفلسفية حول الموت والعبث.
بدوره، أخرج روبرت إيغرز نسختين مسرحيتين من Nosferatu؛ الأولى أثناء دراسته الثانوية، أما الثانية فكانت في عام 2001، بعد أن شاهد أحد المنتجين النسخة الأولى ودعاه إلى إعادة تقديمها احترافياً على المسرح. تلك التجارب المبكرة، أسست لشغف إيغرز بهذه التحفة الكلاسيكية، ليتحقق أخيراً حلمه القديم بتقديم نسخة سينمائية جديدة، تحمل عنوان "نوسفيراتو" (2024)، تستلهم روح فيلم مورناو بعد مرور أكثر من قرن على إنتاجه. وحظي بترشيحات لأربع جوائز أوسكار.
مصاص الدماء حاضر دائماً في الذاكرة الشعبية. كائن عتيق، يختبئ في الظل، يتحرك بين الحياة والموت، بين الإغواء والتدمير. أسطورة تحمل الكثير من الدلالات عن الهوس والفساد الروحي والرغبات المحرمة. أخذ هذا الكائن مكانه في السينما كمرآة تعكس أزمات عصرها، وكما جسد فيلم مورناو ما تركته الحرب العالمية الأولى من ندوب، فكان رمزاً لمشاعر العزلة والخوف من المجهول وحالة عدم اليقين التي اجتاحت ألمانيا في تلك الفترة. تأتي نسخة إيغرز لتعيد تشكيل هذا الإرث، كإيحاء بأن الرعب القديم لم يختفِ، بل ارتدى أقنعة جديدة.
تبدأ الأحداث في ألمانيا عام 1838 مع توماس هوتر (نيكولاس هولت)، الذي ينطلق في رحلة عمل إلى رومانيا متوجّهاً إلى قلعة الكونت الغامض أورلوك (بيل سكارسغارد). لكن ما أن يصل توماس إلى القلعة ويكمل الصفقة، حتى تصبح الأمور أكثر غرابة ورعباً. مع تصاعد الأحداث، يكتشف توماس العلاقة المظلمة بين الكونت وزوجته إيلين (ليلي روز ديب)، فتتعقد الحكاية وتغرق في متاهات الخوف والرغبة والموت.
اختار إيغرز أن يبقى وفياً لجوهر القصة الأصلية، ولكن بلغتة السينمائية الخاصة، ملتزماً بالسياق التاريخي والجغرافي لألمانيا في القرن التاسع عشر، حيث كان المجتمع يعيش ضمن تقاليد صارمة تقيد المرأة وتفرض عليها أدواراً محددة. هذه البيئة القمعية ليست تفصيلاً ثانوياً، فالرغبات المكبوتة لدى إيلين هي التي تدفعها نحو تجربة غريزية وغير عقلانية مع أورلوك، والتي تمثل نقطة انطلاق القصة.
ومع ذلك، فإن محاولات إيغرز لتقديم كل تفاصيل حكاية مصاص الدماء تصبح عبئاً إضافياً في بعض الحالات، إذ تتسبب في بعض الإطالة التي كان من الممكن تجنبها. وكأن الفيلم حمل أعباءً أكثر مما يحتاج، محاولاً سرد كل شيء دفعة واحدة. كما أن الإشارات المتكررة لفيلم مورناو الأصلي قد تسعد عشاق الفيلم الكلاسيكي، لكنها في بعض اللحظات تشعرنا بأن إيغرز يعيد استحضار نفس الرمزية البصرية التي طرحها في البداية.
ما يميز "نوسفيراتو" بنسخة إيغرز هو جمالياته البصرية؛ مشاهد الضباب الكثيف الذي يغمر كل شيء، والطبيعة الريفية الكئيبة، والألوان الباهتة التي تحاكي الأبيض والأسود في نسخة مورناو. تعزّز الأجواء القاتمة شعور العزلة والزوال، وتزيد الظلال الناتجة عن الأضواء الخافتة من وطأة الظلام. يواصل إيغرز استثمار هذه الظلال، التي تتحول إلى كائن حي يتراقص على الجدران وكأنها تطارد الشخصيات، معبرة عن حضور أورلوك حتى في غيابه الجسدي. الرطوبة التي تكاد تتسرب من الشاشة، ومظاهر التحلل والقذارة المحيطة بكل شيء؛ جرذان، ودماء، وتوابيت، تمنحنا شعوراً خانقاً ببيئة مشبعة بالموت. في هذه الأجواء، يصبح صوت أنفاس مصاص الدماء عنصراً إضافياً يعزّز إحساس الخطر الوشيك الذي يترصد في كل زاوية. بذلك، يخلق إيغرزعالماً أشبه بكابوس، إذ يبدو الخطر حاضراً في كل مكان. الرعب لا ينبع من شخصية أورلوك وحدها، بل يمتد ليشمل اللغة البصرية الثقيلة ذاتها.
يتناول الفيلم شخصية إيلين من منظور نسوي، فهي ليست مجرد امرأة تنتظر الخلاص وتدور في فلك الآخرين. يتعامل إيغرز مع يقظتها الجنسية وكأنها جزء من انجذابها إلى عالم مظلم، إذ تتجاوز دور الضحية الضعيفة، وتصبح شريكة في لعبة الإغواء. تحولها من شخصية مسلوبة الإرادة إلى امرأة قادرة على مواجهة رغباتها المكبوتة، يكشف العلاقة المعقدة بين الجنسانية والتسلط.
في الوقت نفسه، يتناول هذا التحول مفاهيم الذكورة التي تتعدى القوة الجسدية، لتشمل الهيمنة النفسية المتداخلة مع الشهوانية. هنا، تتجاوز الرغبة عند إيلين حدود الانجذاب الجنسي، لتصبح تعبيراً عن توقها للتحرر من الهياكل الاجتماعية والأبوية التي تكبلها. في المشهد الختامي، ينساب شعر إيلين بحرية للمرة الأولى، في لحظة تعكس تحرّرها من قيودها، سواء كان ذلك استسلاماً لحب سام أو لكسراللعنة. قد لا يكون خيارها صائباً، لكنه يعبر عن رغبتها في رسم مصيرها بنفسها.
