ما الذي يدفع إنساناً بسيطاً إلى البحث عن وسيلة غير مألوفة للتعبير عن حبه؟ وكيف يمكن لموقف عابر أن يكشف هشاشة الأحلام، وقسوة الواقع، وجمال اللحظة الصادقة؟ هذه بعض الأسئلة التي يطرحها العرض المسرحي "يمين في أول شمال"، الذي يتواصل عرضه على خشبة مسرح السلام في القاهرة طوال أشهر الصيف.
بينما تنشغل الشخصيات بمحاولة تجاوز أزماتها الصغيرة، يشعر المتفرّج بأن الخشبة تتحول إلى فضاء اعتراف جماعي، يُفتح فيه باب للتعبير عما قد يعجز الفرد عن البوح به في حياته اليومية. هنا لا يقتصر الأمر على تقديم قصة موظف بسيط أو ممثل شاب يسعى لإثبات ذاته، بل يتجاوز ذلك ليطرح سؤالاً عميقاً حول مكانة الجمهور إن كان مجرد حشد من المتفرجين، أم جزءاً من هذه الدوامة الإنسانية المليئة بالتناقضات والهشاشة والأمل.
حافظ الممثلون على التوازن بين الطرافة والصدق الإنساني
يمكن القول إن قوة العرض لا تكمن فقط في تماسك بنائه الدرامي أو جودة أداء ممثليه، بل في قدرته على إشراك الجمهور نفسياً ووجدانياً، من دون أن يُطلب ذلك منه صراحة أيضاً. فبين مشاهد الضحك والارتباك، وبين لحظات الصمت أو التأمل، يجد المشاهد نفسه متورطاً عاطفياً، ومتعاطفاً مع الشخصيات، وفي الوقت ذاته متسائلاً عن موقعه هو في هذه المعادلة: كم مرة أخفق في التعبير عما يريد؟ وكم مرة شعر أنه يسير في اتجاه خاطئ، من دون أن يجد فرصة للتصحيح؟ وهكذا يتحول العرض إلى مرآة، لا تعكس فقط ما يدور فوق الخشبة، بل تعيد إلى المشاهد صورته هو، بكل ما تحمله من قلق ورغبة في الفهم والانتماء.
فرغم الطابع الكوميدي الواضح، يظل العرض وفياً لفكرته الجادة، إذ يسلط الضوء على معاناة من لا يملكون إلا قلوبهم الصافية وأحلامهم الصغيرة، في مواجهة واقع لا يعترف دوماً بقيمة الصدق أو الموهبة، موظفاً تقنية المسرح داخل المسرح لتأكيد رسالة العرض. شاب العرض شيء من الإطالة في بدايته، وبعض التكرار في المشاهد الختامية، لكن ذلك لم ينتقص من متعة المشاهدة، ولا من الرسالة التي أراد صناع العمل إيصالها، والمتمثلة في قدرة الحب والعواطف النبيلة في أن تتجسد في التفاصيل الصغيرة، وأن السعي لرسم البهجة على وجه من نحب هو في حد ذاته أمر مهم يستحق التقدير.
تقدّم المسرحية التي كتبها محمود صابر، وأخرجها عبد الله جمال حديني ويؤدي شخصياتها كلّ من عبد الله صابر وإيهاب محفوظ وأمنية حسن، قصة موظف بسيط لا يملك من الدنيا سوى محبته الصادقة لزوجته، التي تستعد لإجراء جراحة دقيقة في القلب. ولأن الإمكانات محدودة، والكلمات الجميلة تعوزه، يقرر أن يمنحها لحظة فرح غير متوقعة، فيدعو ممثلاً شاباً، صادفه في الطريق، إلى منزله، في محاولة لرسم البهجة على وجهها. ومن هذه الفكرة البسيطة تنطلق سلسلة من المواقف التي تمزج الطرافة بالشجن، والمرح بالتفكير والتساؤل.
العمل يطرح قضايا عديدة، من بينها أزمة الفنان الحقيقي الذي يفتقر إلى الفرص، رغم موهبته ودراسته، في مجتمع قد تهيمن فيه المصالح والعلاقات على معايير الاختيار. كما يتوقف العرض عند معنى التضحية، والطرق المختلفة التي نعبر بها عن مشاعرنا، حين تعجز الكلمات عن أداء دورها. وتميزت الرؤية الإخراجية بالبساطة والصدق، إذ جاء الديكور واقعياً ومعبراً، يمثل بيتاً متواضعاً يعج بالتفاصيل الصغيرة، من الصور المعلقة على الجدران، إلى فوضى المكان التي تعكس حال ساكنيه. كذلك جاءت الإضاءة لتكمل المشهد النفسي، متدرجة بين الحميمية والقلق.
وحافظ الممثلون الثلاثة على التوازن بين الطرافة والصدق الإنساني. فنجح الفنان عبد الله صابر في تجسيد شخصية الممثل الشاب الطموح، الذي وجد نفسه فجأة جزءاً من قصة لا تشبه أدواره الصغيرة المعتادة. بينما قدم إيهاب محفوظ شخصية الزوج بإحساس عالٍ، كشف عن صراع داخلي بين رغبته في التعبير عن الحب وعجزه عن ذلك. أما أمنية حسن، فأضفت على شخصية الزوجة روحاً تجمع بين الطيبة والعفوية، وجعلت من حضورها إضافة حقيقية على خشبة المسرح.
