يملأ عشرات الآلاف ساحات قطاع غزة وطرقاته للاحتفاء ببدء سريان وقف إطلاق النار الذي أتاح بدء عودة الأهالي إلى مناطقهم ومنازلهم، ويؤكد كثيرون أنهم سيعودون مهما كانت الظروف.
ينظر الفلسطينيون إلى يوم 19 يناير/كانون الثاني 2025، على أنه يوم عيد، ويعمّ الفرح بسريان وقف إطلاق النار الجميع في قطاع غزة. يحمل كثيرون أعلام فلسطين، ويرفعون شارة النصر، في محاولة جديدة لإثبات تعطشهم إلى الحياة، وإلى الفرحة التي حُرموها على مدار أشهر حرب الإبادة الجماعية.
أفراد وعائلات، أطفال وشيوخ ونساء، الكل مبتهجون في الشوارع، وفي مراكز النزوح ومخيماته المكتظة، تصدح حناجرهم بالتكبيرات والأناشيد والأغاني الوطنية، بينما يطلق بعضهم أصوات منبهات السيارات، أو ألعاباً نارية ابتهاجاً.
يتيح سريان وقف إطلاق النار للآلاف في غزة العودة إلى مناطقهم
ويمكّن سريان وقف إطلاق النار عشرات الآلاف من سكان غزة من العودة إلى مناطقهم ومنازلهم. وبالفعل، بدأت عودة المئات من أهالي مدينة رفح النازحين إلى خانيونس، وكذلك الحال بالنسبة إلى أهالي شماليّ القطاع النازحين إلى مدينة غزة، في تحقيق لما كان يعتبر قبل أسبوعين فقط حلماً بعيد المنال.
قبل بدء سريان الاتفاق، قرر الفلسطيني ميسرة سالم العودة إلى مدينته رفح، سيراً على الأقدام. يقول لـ"العربي الجديد": "اشتقت إلى مدينتي كثيراً، التي شهدت أطول فترة اجتياح من قبل جيش الاحتلال، استمرت تسعة أشهر متصلة. أملي أن أجد منزلي سليماً، أو حتى متضرراً جزئياً. قد لا أجده كما تحتفظ به ذاكرتي، وقد يكون مدمراً، عندها سنعمل على إعادة الإعمار".
إلى جواره، يهلل الشاب يوسف رشوان، ويصدح بالتكبيرات، ويردد أهازيج الفرح بالعودة. يقول: "لا شيء يمكن أن يصف مشاعري. بكيت كثيراً منذ الصباح".
كانت الدراجة الهوائية وسيلة المسن الفلسطيني محمد جمعة الشاعر للعودة، يقول لـ "العربي الجديد"، والفرحة واضحة على تجاعيد وجهه: "شعور الفرح كبير بالعودة بعد معاناة طويلة خلال أشهر النزوح بعيداً عن منازلنا".
تسير نسرين الطنطاوي بين أفواج كبيرة على الطريق الواصل بين مدينتي خانيونس ورفح، وتحشرج صوتها بالدموع عند بدء حديثها لـ "العربي الجديد"، تقول: "نعيش فرحة لا توصف رغم الآلام والنزوح والدمار، وأملنا أن يعيش جميع أهل غزة هذه الفرحة طوال الأسابيع القادمة. مشهد امتلاء الطريق بالعائدين يفرح القلب، ويبعث في نفسي شعوراً بالاطمئنان تشبه أيام الأعياد".
على الطريق، يركض الشاب محمد العثامنة مع أصدقائه للركوب على ظهر حافلة، ويقول لـ "العربي الجديد": "هذا يوم عيد جاء بعد 470 يوماً من الصبر والتضحيات. اشتقت إلى تراب رفح، وإلى معالمها الرئيسية، وإلى دوار النجمة ودوار العودة. محبتنا لرفح كبيرة، وقد احتضنت النازحين لسبعة أشهر في بداية الحرب، ثم صار جميع أهلها نازحين".
لا يجد أبو محمد العايدي مفردات تصف ما يشعر به، ويقول لـ "العربي الجديد"، وهو يحاول المشي بوتيرة سريعة: "أعايش شعوراً غريباً لم أشعر به حتى في الأعياد، إنها فرحة غريبة وكبيرة تغمر قلوبنا. كلي أمل بإيجاد بيتي سليماً".
وفيما كان الناس يعودون للاطمئنان على منازلهم، كان الحاج أبو حسن قوطة من أوائل العائدين إلى رفح، لكن هدفه كان زيارة قبور 22 شهيداً من عائلته الذين استشهدوا خلال العدوان. ترافق الدموع صوت أبو قوطة وهو يحكي لـ "العربي الجديد": "ما حدث للعائلة يفسد شعوري بالفرحة. اشتقت إلى زيارة قبور الشهداء الذين قضوا في مجزرة دموية، وما زلت أشعر بالصدمة على رحيلهم حين قصفوا المنزل فوق رؤوسنا من دون سابق إنذار".
وقبيل سريان وقف إطلاق النار، نغصت أصوات القصف المدفعي وغارات الطائرات الحربية على عدة أماكن في القطاع الفرحة، وغيبت شعور الأمان الذي انتظروه، في ما يعد أول خرق إسرائيلي. يقول أبو أحمد علي لـ "العربي الجديد": "لا يكفي الاحتلال ما فعله بنا طوال الأشهر الماضية من قتل وتدمير، إنهم يحاولون خرق الاتفاق بحجج مختلفة".
أرسل أبو أحمد أبناءه للاطمئنان على منزلهم في رفح، بينما كان منشغلاً بعودتهم خشية أن يطاولهم أي استهداف، ويؤكد: "الاحتلال لا أمان ولا عهد له، ويجب على الوسطاء الضغط عليه لإجباره على التزام الاتفاق حتى نتحرك بأمان، وهذا كل ما نريده".
مع بدء سريان الاتفاق، انبعثت أصوات التكبيرات من مكبرات الصوت. كان أسامة الإمام يرتدي كوفية بالعلم الفلسطيني في تجمع للجيران، هذا التجمع لم يكن ممكناً قبل وقف إطلاق النار، فلطالما استهدفت طائرات الاحتلال التجمعات. يقول لـ "العربي الجديد": "نعيش أجواء فرح ونصر بعد كل ما قدمه الشعب الفلسطيني من تضحيات وتحمّل وصبر خلال هذه الحرب الدموية".
في شارع البحر بمدينة خانيونس، تتجمع مجموعة كبيرة من الشبان، يغنون بصوت جماعي مع التصفيق "جنّة جنّة جنّة. تسلم يا وطنّا، يا وطن يا حبيّب. يا بقليب الطيب، حتى نارك جنة"، بينما يردد أحدهم موالاً شعبياً يقول: "يابا فرحانين. احنا حنروح على دورنا، فرحانين بالنصر، فرحان إني ما متت. وانتصرنا يابا".
تقف سارة الغزالي على مسافة قريبة من الاحتفال الشبابي، تتوشح الكوفية وتحمل علم فلسطين، وتقول لـ "العربي الجديد" بنبرة فرح: "لأول مرة أشعر بالأمان منذ بداية العدوان الإسرائيلي، افتقدنا هذا الشعور طوال الشهور الماضية، ومع مشاهد الفرح المنتشرة في كل مكان، بدأت نار الشوق تملأ قلبي، نريد العودة إلى مدينة غزة، وأن تمضي الأيام السبعة القادمة على خير".
بمشاعر مليئة بالفرح يتعامل الفلسطيني عز الدين عصفور مع دخول وقف إطلاق النار حيز التنفيذ، وقد اصطحب أولاده نحو منزلهم في بلدة عبسان الكبيرة شرق مدينة خانيونس. من شدة التزاحم، لم يجد أي وسيلة نقل، فقرر العودة مشياً على الأقدام إلى بلدته.
يقول لـ "العربي الجديد": "أشعر كأني ذاهب إلى مصلى العيد. مهما كانت المسافات، فسنعود إلى مناطقنا التي نزحنا منها قسراً. رغم أنني زرت بيتي مرة واحدة، ورأيته مدمراً، لكن يبقى الحنين إلى بلدتي، وسنعيش فيها، ولو ضمن خيمة بجانب الركام".
يضيف عصفور والفرح يغمر قلبه ومن حوله تتعالى أصوات التكبيرات: "كما ترى من حولك، يعيش الناس فرحة كبيرة تفوق فرحة يوم العيد. بات باستطاعتنا قول: الحمد لله على سلامة المواطنين، ونتمنى أن تعود الحياة من جديد إلى طبيعتها، فالإنسان هو من يصنع الحياة، كذلك نهنئ أهالي الأسرى بعودة أبنائهم من خلال الصفقة".
يبعث دخول الاتفاق حيز التنفيذ شعور السلام داخل الفلسطيني أبو وسيم صادق، فلأول مرة منذ شهور طويلة يسير مع زوجته وحفيدته داخل شوارع مدينة خانيونس من دون خوف، أو ترقب حدوث قصف قريب أو استهدافهم من الطائرات المسيّرة.
تجوّل صادق في سوق المدينة، وهو يؤكد هبوط أسعار السلع إلى مستويات قريبة من سعرها الطبيعي قبل العدوان، بعد أشهر من معاناة تضاعف الأسعار بسبب إغلاق المعابر، ومنع الاحتلال إدخال البضائع، واحتكار بعض التجار للسلع المتوافرة، ما أدى إلى شح السلع الأساسية، واقتراب بعض المناطق من حدوث مجاعة.
يقول صادق لـ "العربي الجديد" بينما يلمع الفرح في عينيه ويتجسد في صوته: "وقف الحرب يعني أن تعيش مطمئناً في بيتك، وتأمن على أهلكم ومالك. أهم شيء يبحث عنه أي مواطن في غزة بعد وقف العدوان هو السلامة والأمن، وبعدها الطعام والشراب".
تحرك عودة أهل رفح النازحين إلى مدينة خانيونس مشاعر الشوق في قلب أبو وسيم إلى مدينة غزة، وبينما يرى أفواج الناس تعود إلى منازلها، يأمل أن تمر الأيام السبعة القادمة على خير حتى يتمكن من العودة إلى مدينته التي غادرها قسراً، ويقول بعفوية: "أشعر أنها سبعة أشهر لا سبعة أيام. أول شيء أفكر فيه هو البيت، وسنقوم بتعميره للسكن فيه فور عودتنا. عشنا معاناة طويلة مع النزوح والبقاء في خيمة، فقد نزحنا أكثر من 13 مرة، وتنقلنا في مناطق مختلفة من القطاع، إلى أن استقررنا في منطقة المواصي غربي خانيونس، وخلال رحلات النزوح عانينا لتوفير المياه يومياً، الذي كان يستغرق أحياناً خمس ساعات. حالياً، كلنا أمل بزوال الغمة، وانتهاء المشقة والمعاناة التي لازمتنا طويلاً".
